تذكر انفجارات القنابل التي وقعت مؤخراً في بئر السبع، الإسرائيليين، بأن لهزات التفجيرات هذه، علاقة تكاد لا تذكر بإعلان حركة حماس عن عزمها المضي في تنفيذ مثل هذه العمليات، بقدر ما لها من علاقة بعجز إسرائيل نفسها عن منع منفذيها عن فعل ما ينوون. صحيح أن وجود إسرائيل في الضفة الغربية، بما في ذلك، غاراتها المستمرة والمتواصلة على مدن جنين ونابلس، واستكمالها بناء ربع الجدار الأمني العازل، كلها إجراءات وعوامل قللت من قدرة مقاتلي حركة حماس وكتائب شهداء الأقصى والجهاد الإسلامي، وغيرها من مجموعات وتنظيمات، على تنفيذ العمليات الإرهابية ضد الإسرائيليين. لكن وكما تذكرنا عملية بئر السبع، وحملات إسرائيل الانتقامية في غزة، فإن رحى الحرب بين الجانبين لا تزال تدور. ومن الواجب ألا تنسينا الحرب على العراق، ولا التطورات الجارية هناك، ما يجري بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، ومدلولات التطورات اللاحقة لما يحدث الآن، على السلوك الأميركي في أعقاب الحملة الانتخابية الأميركية المرتقبة في الثاني من شهر نوفمبر المقبل.
وكان قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون بالانسحاب من قطاع غزة، قد أحدث اضطرابات داخلية، لدى كل من إسرائيل والفلسطينيين. ومن جانبه، فقد تلقى شارون صفعة وردود فعل قوية على قراره من قبل الحركة الاستيطانية الإسرائيلية. ويلاحظ أن هذه الحركة هي من حسن التنظيم والتمويل والقوة، بحيث يصعب تجاوزها أو تجاهلها. واليوم فإن لشارون حكومة أقلية، لا يزال في وسعها الصمود حتى المستقبل القريب المنظور. غير أنها ستواجه صعوبات كبيرة وحقيقية، حين تحل لحظة تنفيذ خطته الرامية إلى الانسحاب من قطاع غزة، أو حين يكون واجباً عليه إجازة الميزانية الجديدة. ومع ذلك، فقد كانت تعليقاته وتصريحاته التي أعقبت عملية بئر السبع، من القوة، بما لا يدع أدنى مجال للشك، في مضيه قدماً في تنفيذ خطة الانسحاب من قطاع غزة، كما أعلنها من قبل. بيد أن الخيارات السياسية المتاحة أمام شارون لا تزال ضيقة ومحدودة جداً. ولما كان عاجزاً في الوقت الحالي عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، فإنه سوف يتعين عليه حتماً، اللجوء إلى دعم حزب العمال له- على الأقل فيما يتصل بتنفيذ خطة الانسحاب من القطاع- حتى وإن جاء ذلك من خارج الحكومة.
وفي الواقع، فإنه ليس أمام شارون إلا خيار واحد، هو الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة، أو مجرد التلويح بذلك، كي يتسنى له استثمار المخاوف التي يبديها الجزء الغالب من حزبه- حزب الليكود- من أن يؤدي إجراء انتخابات عامة إلى تكليف الحزب خسارة سياسية بالغة في عدد مقاعده البرلمانية التي يتمتع بها حالياً.
لكن وبصرف النظر عن هذا كله، فقد عقد شارون العزم على تنفيذ خطة الانسحاب التي أعلنها، على رغم علمه المسبق بأن ما لا يقل عن 70 في المئة من قاعدة حزبه، ترفض هذه الخطة، وتعترض عليها من حيث الأساس. والآن، فقد بلغ شارون نقطة "اللا عودة". وفي المقابل، فإن ما يثير الاهتمام أن الفلسطينيين لا تراودهم أدنى شكوك في الانسحاب الحتمي لإسرائيل من القطاع. وقد أفضى هذا الشعور لديهم، إلى خلق كثير من الضغوط الإضافية عليهم. ذلك أن خروج إسرائيل لا يعني شيئاً آخر، سوى أن يأخذ الفلسطينيون أنفسهم بزمام أمرهم، وتولي مسؤولية إدارة القطاع. ويعني ذلك بدوره، أن يتمكن الفلسطينيون من حكم أنفسهم بأنفسهم، وأن يعملوا على سيادة حكم القانون، وبناء ما يتطلبه ذلك من مؤسسات ومقومات حكم ذاتي. وتتلخص تفاصيل كل هذه الضغوط، في أنه حانت اللحظة التي أصبح فيها لزاماً على الفلسطينيين أن يثبتوا قدرتهم وجدارتهم بتحمل المسؤولية وتبعاتها. ولكن أنى لهذا أن يحدث، وعرفات لا يزال جاثماً على صدر القيادة، ويواصل اعتراضه على كل ما من شأنه أن يؤهل الفلسطينيين لدور كهذا؟ بالنتيجة، فقد كانت الأسابيع القليلة الماضية، فصلاً من التحديات الصعبة والمستمرة التي أثيرت في وجه عرفات. وضمن ذلك، فقد جرى اختطاف بطانته الأمنية، وأبقي عليهم تحت الحبس، ولم يفرج عنهم، إلا بعد تمريغ أنوفهم بالوحل والإهانة. في الوقت ذاته، استقال رئيس وزرائه أحمد قريع، معلناً رفضه العودة إلى منصبه، إلا بعد إعلان صريح من جانب عرفات، بقبوله خطط قريع الرامية إلى إجراء تغييرات جوهرية في النظامين الأمني والإداري المعمول بهما حالياً. وفي غزة، جهر حتى ربيبه محمد دحلان، بصوت النقد عالياً، ووصف الزعيم بأنه إنما يجلس على تل من جثث الفلسطينيين وما لحق من دمار بالأحياء منهم، مردفاً بالقول إن الفلسطينيين سيضطرون للخروج إلى الشوارع تظاهراً واحتجاجاً على عرفات، فيما لو لم تجر الإصلاحات المنشودة. أما المجلس التشريعي الفلسطيني، فأعلن هو الآخر مسؤولية عرفات عن أحداث العنف والفوضى العارمة التي تشهدها الشوارع الفلسطينية.
وبسبب توالي كل هذه الضغوط والانتقادات التي استهدفته مؤخراً، فقد اضطر عرفات لإبداء ما لم يبده من قبل مطلقاً، ألا وهو الاعتراف بالخطأ والانصياع للانتقادات الموجهة إليه. ولكن ال