بمسح لوسائل الإعلام العالمية المرئية والمقروءة، وعبر شبكات الإنترنت يلاحظ المرء تركيزاً شديداً على سير الحملة الانتخابية للحزبين الديمقراطي والجمهوري، كما يلاحظ تحليلات وتفسيرات للمسائل الخاصة بالانتخابات يحاول الجميع أن ينظر إليها من وجهة نظر تخص المناطق أو الأقطار التي ينتمون إليها، وكيف ستؤثر نتائج الانتخابات عليها، ومن هو الأصلح والأنسب لكي يحقق لها مصالحها. إن المرء يتفهم جيداً أن يقوم الناخب الأميركي بذلك كما جرت العادة منذ أن وجدت الحياة السياسية الأميركية، لكن أن تهتم شعوب العالم قاطبة بالانتخابات الرئاسية الأميركية، وبهذا الشكل المكثف فإن ذلك لعمري شأن جديد يرقى إلى أن نصفه بأنه ظاهرة سياسية جديدة تحتاج من دارسي العلوم السياسية المحدثين درساً وتنقيباً وتحليلاً علهم يصلون إلى تفسيرات لها. وعلى ضوء ذلك فإن سؤالاً منطقياً يطل علينا برأسه وهو: لماذا يحدث ذلك في هذه المرحلة بالذات، وما هي الكوامن التي تقف وراء هذه الظاهرة الجديدة؟
إن العالم كان في السنوات التي خلت يهتم أيضاً بشؤون الانتخابات التي تجري في الولايات المتحدة، وخاصة بالنسبة للانتخابات الرئاسية ولكن ذلك كان يجري على مستوى الحكومات وربما على مستوى المثقفين في الأقطار التي ترتبط بالولايات المتحدة. كانت الحكومات في أوروبا الغربية والاتحاد السوفييتي السابق واليابان وألمانيا لها مصلحة مباشرة في كون الحكومة الأميركية جمهورية أو ديمقراطية لأن لكل من الحزبين أيديولوجيته وطريقته الخاصة في تسيير الأمور، وإن كان جميع ذلك يتم ضمن مظلة واحدة يتفق عليها الحزبان وجميع المواطنين الأميركيين، ألا وهي المصلحة الأميركية العليا أو كما تقول المقولة الأميركية الدارجة (مصلحة العم سام).
وكانت حكومات دول العالم النامي تهتم أيضاً بما يدور في الولايات المتحدة أثناء انتخابات الرئاسة لأن لذلك شأناً مباشراً بالسياسة الخارجية التي سينتهجها الرئيس القادم، ويرتبط بذلك بالتأكيد حجم المساعدات الخارجية التي سيحظى بها كل قطر من تلك الأقطار، وفقاً لموقعه في حلقات شبكة المصالح الأميركية. وتضاف إلى ذلك أيضاً المواقف الأميركية السياسية والأدبية من تلك الأقطار.
وعليه نقول إن ما يحدث حالياً هو ظاهرة جديدة لابد أن تكون لها تفسيرات جديدة أيضاً. وبالتأكيد ليس بالإمكان الخوض في جميع الأسباب الممكنة التي أدت إلى تحول انتخابات الرئاسة الأميركية إلى شأن عالمي بالشكل الذي نشهده الآن، ولكن أحد الأسباب الرئيسية هو تأثيرات العولمة على الشأن السياسي العالمي، فالعولمة المعاصرة آخذة في دفع الولايات المتحدة لكي تصبح أكثر دول العالم هيمنة على شؤونه. إن الأنماط السائدة في عالم اليوم بالنسبة للدولة الوطنية تنقسم إلى قسمين متضادين: الأول هو جماعية الدول الوطنية في العالم المعاصر، والآخر هو قطب واحد هو الولايات المتحدة الأميركية. ورغم أن هذين النمطين عادة ما يكونان متضادين في تأثيرهما إلا أنهما يمكن أن يعملا مع بعضهما بعضاً في اتجاه واحد وفي أحيان معينة. إن تلك هي طبيعة هذين النمطين بالنسبة لتأثيرهما على الدولة الوطنية المعاصرة، فهما يهاجمانها من فوق ومن تحت في نفس الوقت، بطريقة ينالان فيها من نفوذها ومصداقيتها.
وفي هذا السياق فإن الدول الوطنية على مدار العالم تفقد هويتها المحلية في صالح من يمتلك القوتين: الاقتصادية والعسكرية. وعلى ضوء اهتزاز اقتصادات العديد من دول العالم شرقاً وغرباً، وعلى ضوء بروز الولايات المتحدة كقوة عسكرية ضاربة وحيدة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، وتمكنها من وضع أقدامها عسكرياً في أي مكان من هذا العالم، وذلك على ضوء تجربة أفغانستان والعراق، فإنها، أي الولايات المتحدة، أصبحت محط أنظار جميع البشر في كل بقعة من بقاع العالم.
وأرجو ألا يفهم القارئ أنني أرمي إلى القول إن الدولة الوطنية كمؤسسة على وشك الانهيار، فمن غير المرجح لها أن تختفي عاجلاً. إن الدول الوطنية ستبقى الفاعل الأول في سياسات العالم في العقود القليلة القادمة. ولكن الولايات المتحدة بمسعاها إلى العمل على تحقيق مصالحها على مدار العالم ستعزز من قوتها الاقتصادية والعسكرية بأقصى قدر ممكن. وهدفها من ذلك هو فرض اقتصاد عالمي تكون هي المسيطر الأول عليه. والواقع هو أن الدمج الاقتصادي العالمي يحتاج إلى قوة عسكرية تحميه وإلى قيادة سياسية تقوده، فهل تصبح مؤسسة الرئاسة الأميركية هي القيادة السياسية الجديدة لعصر العولمة المتسارع الذي يمر به عالم اليوم مثلما هو وضع القوة العسكرية الحالية للولايات المتحدة والذي لا تضاهيه أية قوى أخرى؟.