في بداية القرن العشرين كانت أميركا حلماً وملاذاً للعرب الباحثين عن الحرية، فقد تدفق إليها المهاجرون ولا سيما من بلاد الشام، وصار لهم حضور ثقافي واجتماعي واقتصادي، وما يزال طلابنا يدرسون أدب المهجر، ويجدون فيه نموذجاً للمثاقفة الحضارية بين العرب والأميركان. وبعد أن تحرر العرب من الدولة العثمانية بدؤوا يواجهون احتلال أوروبا لبلادهم وما يحمل من خطر صهيوني، ولم تكن لأميركا مطامع في بلاد العرب والمسلمين، ولم يكن العرب الأوائل يتوقعون أن تتحول الولايات المتحدة يوماً ما إلى موقف معادٍ لأمتهم، لأنها بلاد مفتوحة لجميع شعوب العالم، ولأن بطل الاستقلال الأميركي "فرانكلين" حذر الأجيال الأميركية في خطاب شهير له أمام المجلس الشرعي عام 1789 من أن يصبح اليهود حكاماً لأميركا، وقال "إنهم سيمحوننا في أقل من مائتي عام ويبدلون صورة أميركا رويداً رويداً". ولم يكن لدى العرب أي شعور معادٍ لليهود لأنهم اعتادوا على العيش مع اليهود الشرقيين منذ قرون في كل البلاد العربية، وكان العرب هم الذين احتووا اليهود بعد الخروج من الأندلس كما احتووا هجراتهم من الظلم الذي لحق بهم في أوروبا، مع أن القلق من ازدياد هجرة اليهود إلى فلسطين بدأ يكبر منذ أن طلب "هيرتزل" من السلطان عبدالحميد دولة لهم، ودفع الإمبراطور العثماني ثمن رفضه، وصدق قوله "لا يدخلونها إلا على جثتي". ولم يدرك عرب أميركا أهمية أن يكون لهم حضور فيها مثل الحضور الصهيوني الذي اتضحت قوته حين موَّل اليهود حملة "ويلسون" الرئاسية، وكانوا هم الذين دفعوه إلى دخول الحرب الأولى والوقوف إلى جانب بريطانيا وفرنسا، وكان من نتائج الحرب الأولى اتفاقية "سايكس- بيكو" التي فصلت فلسطين عن سوريا، وجعلتها تحت الانتداب البريطاني الذي كانت مهمته تنفيذ وعد بلفور، وحين جاء "روزفلت" لم ينتبه العرب إلى أنه جعل شعار حملته الانتخابية "إنشاء دولة يهودية في فلسطين". لكن المفاجأة التي ابتلعها العرب بمرارة كانت في التأييد الحماسي الذي أبداه "ترومان" لإقامة دولة إسرائيل، والغريب أن الأوراق التي تركها الرئيس ترومان بخط يده كشفت مفاجآت مثيرة، لأنها عبرت عن كراهيته الدفينة لليهود على الرغم من كل الحماس الذي كان يبديه لإسرائيل، ويبدو أنه كان مقتنعاً في داخله، بموقف وزارة الخارجية الأميركية التي عارضت الاندفاع نحو تأييد إسرائيل على حساب العرب، وكان على رأسها القائد القوي "جورج ماريشال"، الذي لم يخضع للضغوط التي خضع لها ترومان، وفي الوثائق نقرأ موقف السفير "هندرسون" الذي فضح الأمر حين قال:"كل ما يريده الرئيس هو أن نقول له إن إقامة دولة يهودية في جزء من فلسطين يتماشى مع مصالح الولايات المتحدة، لكن برغم كل الضغوط على وزارة الخارجية لم نستطع أن نقول له ذلك". وكان "ترومان" هو الذي منح إسرائيل قوة الانطلاق لحظة تأسيسها، وكان يقول لمن يذكره بحقوق العرب:"ليس لدي هنا عدد كاف من الناخبين العرب" وكان من أقسى الردود الأميركية على هذا الموقف قول ماريشال:"إن المصالح الاستراتيجية لدولة عظمى كالولايات المتحدة يجب ألا تخضع لطموح متدنٍ بإعادة انتخاب رئيس". وحين أعلن "ترومان" عن مبدئه في إعطاء أهمية استراتيجية للخليج العربي من أجل المصالح النفطية، لم تجد غالبية العرب خطراً كبيراً في ذلك لأن الدول العربية النفطية كانت تريد شريكاً قادراً، وحين قامت ثورة مصر لم يكن العرب يعتبرون أميركا عدواً رغم تراجعها عن تمويل السد العالي، ولم تكن ثورة يوليو بعيدة عن الرضا الأميركي كما أكد السادات في مذكراته، ثم جاءت معارضة "إيزنهاور" للعدوان الثلاثي على مصر وطلبه من إسرائيل الانسحاب من سيناء لتعدِّل الموقف العربي القلق من مبدأ إيزنهاور الذي مزج النفوذ السياسي للولايات المتحدة بقوة ردع عسكرية، وتجاهل العرب أن "إيزنهاور" كان يرى في شخصية إسرائيل القومية عصارة نقية للقوة والعظمة، وأنه أخرج البريطانيين والفرنسيين من المنطقة ليبدأ عصر أميركا، وكان مشروع "إيزنهاور" هو سد الفراغ، وكانت وصيته لـ"جون كينيدي" أن يلتزم بأمن إسرائيل، وهذا ما أكده "كينيدي" فقد قال بعد تسلمه الرئاسة "لقد وُجدت إسرائيل لتبقى". ولكنه ربما لسبب في مذهبه الديني لم يمتلك الاندفاع الكافي لتلبية طلب "بن غوريون" بعقد (اتفاقية أمن مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة) ولم يوافق على طلب "بن غوريون" بأن تقوم إسرائيل بضربة قاسية ضد العرب، وقد قتل كينيدي، وجاء "ليندون جونسون" ليحقق ما لم يقبل به "كينيدي" وكانت حرب 1967 أول ضربة كارثية نبَّهت العرب إلى أنهم لا يحاربون إسرائيل وحدها وإنما هم يواجهون الولايات المتحدة مباشرة.
وحين جاء "نيكسون" بدأ يخطط لتنفيذ توصية المؤتمر الصهيوني عام 1960 بجمع العرب والإسرائيليين على طاولة صلح، وكانت مهمته كذلك أن يقنع العرب بتوطين اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين، وكان "كيسنجر" هو المسيطر على القرار الأميركي، وقد تكمن العرب من تحقيق نصر نوعي في حرب أكتوبر73 وجد فيه الرئيس السادات طر