ما زلت أعتقد من متابعتي للصحافة العربية أن الهموم الكبرى تسيطر على معظم الكتاب وتشد أنظارهم إلى المشاهد في فلسطين والعراق ودارفور وأخيراً سوريا ولبنان. وهو اهتمام وانشداد طبيعيان لكنهما لا يجب أن يغيبا مشهد الحوار الديمقراطي المتصاعد في مصر بين قوى الحكم من ناحية، وقوى المعارضة السياسية ومنظمات المجتمع المدني والكتاب الإصلاحيين من ناحية ثانية. إنني أدعو الكتاب العرب إلى مراقبة ما تشهده الساحة المصرية الداخلية من جدل سياسي حول ضرورات الإصلاح الشامل، فهي تجربة إن استطاعت النجاح في الوصول إلى صيغة توافقية حول أجندة الإصلاح من خلال الحوار الديمقراطي المفتوح فإنها ستقدم سابقة جديدة للحياة العربية في إمكانية وسائل المطالبة السلمية بعيداً عن الصراعات العنيفة تحقيق أجندة للتحول إلى الحكم الديمقراطي الرشيد.
لقد أصبح الاهتمام بإمكانية نجاح المطالبة السلمية في تحقيق الإصلاح أحد الشواغل الكبرى التي تسيطر على ذهني كأحد الكتاب الإصلاحيين في مصر لما توفره هذه الإمكانية من مزايا وطنية كبرى. فهي أولاً تدخر الطاقات الوطنية وتحول دون استنزافها في صراعات وتركزها جميعاً في اتجاه العمل البناء. وثانياً فإن نجاح المطالبة السلمية يضمن التماسك الوطني بين النظام السياسي وسائر قوى المجتمع وينجي البلاد من الوقوع في دائرة التمزق الداخلي المُهلكة. وثالثاً فإن تحقيق التحول الديمقراطي عن طريق المطالبة السلمية والتوافق بين النظام السياسي وقوى المجتمع يضمن تجربة حكم ديمقراطي دائمة غير معرضة للانتكاسات نحو الحكم الديكتاتوري.
ذلك أننا نلاحظ في تجارب شعوب عديدة نجحت في تحقيق التحول إلى الحكم الديمقراطي عن طريق الصراعات العنيفة ميلاً إلى الانتكاس من جديد نحو الحكم السلطوي أو الديكتاتوري من جانب الزمر العسكرية أو مجموعات المصالح الكبرى أو الأحزاب الأيديولوجية المتطرفة سواء كانت أحزاباً علمانية يسارية أم يمينية أم أحزاباً ذات طابع ديني أو عنصري. ومن هنا فإن تركيزي على الطابع السلمي للتحول الديمقراطي يبدو مبرراً في ذهني بمزايا كبرى للأوطان في أثناء عملية التحول نحو الحكم الديمقراطي أو بعد اكتمالها على حد سواء.
إن المسألة التالية التي تترتب على بحث المسألة الأولى وهي إمكانية التحول السلمي إلى الديمقراطية تتعلق بالمقتضيات والظروف الموضوعية والذاتية التي يجب توفرها لنجاح تلك الإمكانية. إن الظرف الأول المطلوب هو توافر مساحة كافية من حرية التعبير العلني عن المطالب الإصلاحية وعن الملاحظات النقدية. إن هذه المساحة قد أصبحت مضمونة في مصر نتيجة لوجود صحف حزبية متعددة تعبر كل منها عن موقف أحد الأحزاب المعارضة فضلاً عن وجود عدد من الصحف وقنوات التلفزيون الخاصة المستقلة التي أصبحت تمثل منابر للآراء النقدية والمعارضة بالإضافة إلى ما يلاحظه المراقبون من اتساع مساحة التعبير النقدي الحر في قنوات التلفزيون التي تسيطر عليها الحكومة عن طريق وزارة الإعلام.
ومن البديهي القول إنه لولا تحقق ظرف حرية التعبير العلني ما أمكن أصلاً الحديث عن مطالبات سلمية علنية وشرعية بالإصلاح.
إن الظرف الثاني الضروري هنا هو السلوك الحكومي الرسمي الظاهر والخفي تجاه الأصوات المعارضة والمطالبة بالإصلاح، فهذا السلوك في مصر أصبح سلوكاً متسامحاً بل ومتفهماً لأصحاب الأصوات الإصلاحية بحيث أصبح المعارضون في حالة اطمئنان كامل إلى سلامتهم البدنية وحريتهم وحقوقهم الاجتماعية والسياسية المكفولة في الظاهر وفي الباطن بعيداً عن أي شكل من أشكال التهديد أو المصادرة أو القمع والبطش المعروفة في السلوك الديكتاتوري.
إن الظرف الثالث الضروري لنجاح عملية المطالبة السلمية بالإصلاح الديمقراطي هو ظرف الاستجابة الكلية أو الجزئية من جانب النظام السياسي الحاكم للمطالب الإصلاحية والاستعداد لإجراء الحوار الوطني حول هذه المطالب مع قوى المعارضة السياسية والكتاب الإصلاحيين ومنظمات المجتمع المدني، وهو ظرف يمكن أن أسجل شاهداً بارزاً على بداية تبلوره في مصر. ذلك أن أحزاب المعارضة كانت تشكو خلال الشهور الماضية مما تسميه امتناع الحزب الوطني الحاكم بقيادة رئيس الجمهورية عن الحوار الجاد معها حول المطالب الإصلاحية وكانت تبرز على نحو نقدي ما تعتبره احتكار الحزب الحاكم لعملية الإصلاح وصياغة برامجها على المقاس المفضل عنده. ولقد جاءت استجابة الرئيس لهذه الانتقادات المعارضة لتمثل شاهداً على مرونة النظام السياسي الحاكم واستعداده مبدئياً للتجاوب مع مطالب المعارضة.
ففي يوم 8 سبتمبر الحالي عقد الرئيس حسني مبارك رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الوطني الحاكم اجتماعاً مع المجموعة السياسية الوزارية التي تضم رئيس الوزراء وأمين الحزب الوطني ووزيري مجلس الشعب ومجلس الشورى ووزير الداخلية ووزير العدل وأمين أمانة السياسات بالحزب جمال مبارك. وقد لاحظ المراقبون في ختام هذا الاجتماع أن المتحدث الرسمي باسم رئيس الجمهورية وليس متحدثاً آخر هو الذي أعلن نتائج ا