الأزمة التعليمية التي تحدثنا عنها في الأسبوع الماضي تحولت في هذا الأسبوع إلى واقع ملموس عندما انفجرت "قنبلة الاتهامات" بصورة سريعة على صفحات الجرائد المحلية، وتحولت حوارات الكواليس الصامتة إلى اتهامات علنية متبادلة بين وزارة التربية والمالية وديوان المحاسبة والمجلس الوطني، كل طرف يتهم الآخر، كل طرف يحاول بقدر الإمكان أن يبعد عن نفسه المسؤولية، الكل يحاول أن يهرب أو يتهرب من المسؤولية، ولم أجد طرفاً واحداً يقول بشجاعة ووضوح إنه هو المسؤول عن المشكلة أو إنه على الأقل شارك في جزء من المسؤولية، وهذا يتنافي كلياً مع أبسط شروط والتزامات المسؤولية المؤسسية. قد تكون هذه الصورة في شكلها الخارجي صورة إيجابية كونها تمثل نوعاً من المساءلة والشفافية والمكاشفة، إلا أنها دائماً ما تنتهي دون حلول وتظل نائمة وكامنة لمدة زمنية ثم تنفجر مرة أخرى من جديد. والأهمية التي تبرز من خلال هذه المشكلة هي أنها كشفت بوضوح عن عمق حالة الأزمة التعليمية ومدى انتشار ظاهرة التبرير والدفاع عن العقلية المسؤولة والتي تمثل في داخلها صورة من صور الهروب من أثقال تحمُّل المسؤولية. ودعوني هنا أشخّص هذه الحالة من منظور ما يعاني منه التعليم، وأقول إن مشكلة التعليم في تصوري ليست فقط مشكلة مالية كما يصورها بعض المسؤولين والمهتمين بأمر التعليم، أو تصورها بعض الأدبيات التربوية، بل هي في الأساس مشكلة إدارة. المشكلة هي في نوع الخلل الذي يصيب منظومة العقلية الإدارية التي تدير التعليم والتي تضع فلسفاته وبرامجه وخططه ومشاريعه وقراراته ونظرياته، وتقوم على تنفيذ استراتيجيته. ودعوني هنا أشخّص لكم وضع الحالة التعليمية من خلال هذه العقلية التي قد تكون إفرازاتها الإدارية مؤثرة جداً على تطور الحالة التعليمية وعلى الكثير من البرامج والخطط والمشاريع والقرارات، حيث إن الكل يعرف ماذا يحدث لحالة التطوير عندما يصل إلى موقع المسؤولية شخص ديكتاتور أو متسلط. وأنا هنا سأكتفي بثلاثة أمثلة:
الأول ما يخص العقلية الإقصائية: والتي همها الأساسي من التطوير أن تعمل ضده بالتصدي لفكر الطرف الآخر الذي يمثل قيمة عالية للمؤسسة، والسبب هو أنها تنظر إليه على أنه يمثل تهديداً لموقعها في المؤسسة، ثم إنها دائماً ما تحاول إبقاء الحال في المؤسسة على ما هو عليه وإخفاء الخلل والأمراض التي تعاني منها المؤسسة، ولا يهم أن يتحول هذا الإخفاء إلى كارثة، وأقرب مثال على ذلك تهديدات المسؤول البارز لمعلمات مدرسة أحمد بن ماجد للتعليم الأساسي بالفصل فقط لأنهن ناشدن المسؤولين عن التعليم عبر الصحافة المحلية أن ينقذوهن من أوضاع المدرسة المتردية والتي أصبح مبناها قابلاً للسقوط عليهن في أية لحظة.
العقلية الاستعراضية: عقلية تعشق بشدة الظهور والبهرجة، ولا تملك من ثقافة العمل إلا الشعارات الضبابية واستيراد الحلول الجاهزة، والحل الإداري عندها لأية مشكلة هو أن يتحول كل شيء إلى أرقام وملايين، وأقرب شبه لهذه الحالة ما صرح به أحد المسؤولين بخصوص مشكلة صناعة البطل الأولمبي قائلاً: إن الحل الأمثل هو أن تخصص الدولة 37 مليوناً لصناعة بطل أولمبي. وهذه الفلسفة التي تتنافى مع أبسط مبادئ صناعة البطل شبيهة بذلك الكاتب الذي كتب عموده بعنوان ملفت للنظر "أعطوهم ولا تحاسبوهم".
عقلية الكلام الكبير: التي تطرح الأفكار والشعارات الكبيرة رغم أنها تدرك تماماً أن معضلات واقع التعليم أكثر تعقيداً من أن يكون علاجها بشعار عام يستمد جذوره من صيغة الكلام الكبير، وبعض فلسفات الكتب التربوية المملة، وأقرب مثال على ذلك اللقاء الذي نشرته إحدى الصحف المحلية مع مدير إحدى المناطق التعليمية وقال فيه كلاماً كثيراً، أهم ما فيه أنه تضمن مساحات واسعة من التناقض، مثلاً يقول إن أوائل الثانوية العامة هم نسخة من الكتاب المقرر، ثم يعود ويناقض نفسه ويقول إن السنوات الماضية شهدت معجزة تعليمية. ويبدو أنه لم يقرأ تقرير التنمية البشرية للعام 2004 الصادر عن الأمم المتحدة والذي أشار إلى أن الإمارات ضمن أسوأ ست دول في العالم من حيث مستوى التعليم الابتدائي، يطالب بتفعيل اللامركزية، ويقول إن من يريد حل مشكلاته الإدارية داخل المؤسسة التعليمية يذهب إلى الوزير، وهذا تكريس لحالة المركزية. هذا التناقض الفكري في تصوري يعني أن حل مشكلات التعليم في نظر هذا الفريق يكون وفق نظرية "الكاباتشينو" حيث يبدأ الحل برشفة ثم رشفتين وينتهي الموضوع بكارثة في التعليم، كارثة الكلام الكبير.