إذا كنا في إثارتنا لمشكلة الأمن العالمي والتحديات الخطيرة التي تواجهه في الوقت الراهن قد أشرنا إلى ظاهرة الانتقاص من سيادة الدول سواء بسبب النزعة إلى الانضمام لتكتلات دولية كالاتحاد الأوروبي، أو بسبب النفوذ الضخم للشركات دولية النشاط، أو بتأثير العولمة، فإن أحد الأسباب الرئيسية هو التدخل السياسي.
ولا شك أن ممارسة التدخل السياسي من قبل الولايات المتحدة الأميركية خاصة في العقود الماضية، وبغير تقنين دولي واضح يحدد بدقة معناه والحالات التي يطبق فيها، ومن يقوم بالتطبيق، هو النموذج الواضح الآن للعدوان على سيادة الدول.
وكان هذا الموضوع بالذات أحد الموضوعات الرئيسية التي نوقشت في مؤتمر دولي عقد في القاهرة يومي11، 12 سبتمبر 2004 بعنوان:"التهديدات والتحديات والإصلاح: بناء الأمن في منطقة البحر الأبيض المتوسط والخليج".
التركيز على التهديدات الجسيمة الموجهة للأمن العالمي من قبل القطب الأوحد، ونعني الولايات المتحدة الأميركية. وهذه التهديدات مبعثها الأصلي هو استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة التي أعلنها الرئيس بوش والتي ورد فيها أن سياسة الردع والاحتواء التي كانت سائدة طوال الحرب الباردة لم تعد تجدي في ظل التغيرات العالمية الراهنة. ولذلك ابتدعت سياسة جديدة هي الضربات الاستباقية، وتعني بكل بساطة أن الولايات المتحدة لو شكت في "نوايا" دولة أخرى أياً كانت في الإضرار بالأمن القومي لأميركا، فإن من حقها منفردة وبغير قرار من مجلس الأمن أن تضربها ضربة عسكرية تجهض بها مشاريعها العدوانية.
والواقع أن فكرة المؤتمر تعود إلى خطاب للأمين العام للأمم المتحدة "كوفي أنان"، الذي أشار إشارة واضحة ونقدية للمذهب الاستراتيجي الأميركي الجديد عن الضربات الاستباقية، وتهديده الجسيم للأمن الدولي. وكوّن لجنة من كبار الشخصيات لبحث الموضوع وتقديم التوصيات المناسبة بعد أن تعقد مؤتمرات في مختلف القارات يحضرها خبراء وباحثون ومثقفون ودبلوماسيون.
كما وردت انتقادات الأمين العام للأمم المتحدة في الجلسة العامة السابقة للجمعية العامة في دورتها الثامنة والخمسين التي رأسها السيد "جوليان روبرت هنت". وبعد ما أشار الأمين العام في كلمته إلى الأخطار الجديدة التي يتعين مواجهتها وأهمها "الإرهاب" وانتشار أسلحة التدمير الشامل، قرر أن هناك خلافاً حول كيفية التصدي لتلك الأخطار. حيث إن المادة 51 من الميثاق تطلب من جميع الدول إذا تعرضت للاعتداء، أن تحتفظ بالحق الطبيعي في الدفاع عن النفس. ووفقاً للممارسات الدولية فإن الدول إن أرادت أن تذهب إلى أبعد من ذلك وتقرر استخدام القوة للتعامل مع التهديدات الأوسع للسلام والأمن الدوليين، فلابد لها أن تلجأ إلى شرعية قانونية يوفرها مجلس الأمن، وهذا عكس ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية في حالة تدخلها السياسي في العراق وغزوها العسكري له.
ويوجه "كوفي أنان" النقد المباشر للولايات المتحدة وإن لم يذكرها صراحة. ويقول بالنص "والآن يقول البعض (ويقصد الولايات المتحدة الأميركية) إن هذا الفهم لم يعد يمكن الدفاع عنه، لأن الهجوم المسلح بأسلحة التدمير الشامل يمكن شنه في أي وقت دون إنذار أو عن طريق جماعة سرية. وبدلا من انتظار حصول ذلك، يجادلون بأن من حق الدول ومن واجبها استخدام القوة على نحو وقائي، حتى على أراضي دولة أخرى، بل وحتى حينما تكون منظومات الأسلحة التي قد تستخدم في الهجوم عليها مازالت قيد التطوير. ووفقاً لهذه الحجة تصبح الدول غير ملزمة بالانتظار حتى يكون هناك اتفاق في مجلس الأمن. وبدلا من ذلك فإنها تحتفظ بالحق في أن تتصرف على نحو انفرادي أو في تحالفات مخصصة".
وبعد ما فرغ "كوفي أنان" من شرحه لمذهب الضربات الاستباقية الأميركي لم يتردد في نقده بجسارة ملحوظة، إذ قرر "أن هذا المنطق يمثل تحدياً أساسياً للمبادئ التي قام عليها، مهما كان ذلك على نحو ناقص، السلام والاستقرار العالميان في الأعوام الثمانية والخمسين الماضية. وما يقلقني هو أن هذا المنطق، إذا تقرر اعتماده، من شأنه أن يضع سابقة تسفر عن انتشار استخدام القوة الانفرادي والخارج على القانون، بمبرر أو بدون مبرر".
ولا نجد أبلغ من تعبير "كوفي أنان" نفسه في هذا النص التاريخي المهم، حين قرر بكل وضوح أن استخدام دولة ما للقوة بشكل انفرادي وبدون ترخيص من مجلس الأمن هو خروج على القانون.
والواقع أن مناقشة المؤتمر الدولي الذي أشرنا إليه، إن كانت في مجال التحديات فمن الطبيعي أن تركز على الاستراتيجية الأميركية الجديدة في الضربات الاستباقية باعتبارها تمثل التحدي الرئيس الآن للأمن الدولي، وعليها في مجال التهديدات أن تعالج مباشرة القطب الآخر وهو "الإرهاب الدولي"، والذي أصبح بحكم انتشاره في مختلف القارات ظاهرة عالمية تستحق البحث المتعمق، سعياً وراء وضع استراتيجيات فعالة لمواجهتها.
ونقطة البداية في هذا البحث هي تحديد منهج علمي متكامل قادر على تحديد أسباب الظاهرة، بحيث لا نخضع للتعميمات الجار