في مثل هذه الأيام من سبتمبر عام 1954 قام الرئيس إسماعيل الأزهري بأول زيارة له كرئيس للحكومة الوطنية المنتخبة لمديرية "دارفور". كانت مناسبة الزيارة حضور اجتماع "المؤتمر" القبلي السنوي الذي يعقده زعماء ونظّار وشيوخ القبائل "الدارفورية" لمناقشة القضايا المشتركة التي تهم قبائلهم على اختلاف أسمائها وألوانها، ولحل الخلافات والمشاكل التي تقوم عادة حول المرعى والماء والعشور "الضرائب" وغيرها. وكانت أمثال هذه المؤتمرات القبلية سنها المستعمرون للجمع بين زعماء الإدارة الأهلية لمساعدتهم على تأمين الأمن والاستقرار بين مختلف القبائل ليس في "دارفور" وحدها ولكن في جميع مديريات الأطراف السودانية، وكان الاجتماع السنوي يعقد عادة تحت رعاية مدير المديرية البريطاني. اجتماع ذلك العام قبل خمسين عاماً كان أول اجتماع يترأسه المدير السوداني المرحوم علي أبوسن الكبير ويحضره ويشارك فيه أول رئيس سوداني للحكومة الوطنية الوليدة حديثاً.
أمثال تلك المؤتمرات لم تكن فقط فرصة لحلّ الخلافات وتسوية الديات، ولكنها أيضاً كانت مناسبة اجتماعية يلتئم فيها وحولها شمل القبائل المتعددة التي تعيش في هذا الوطن- القارة، وتنتشر بينهم روح التضامن والأخوة السودانية، وتعلو خلالها قيم الشهامة والنبل والكرم الذي تميز به أهل السودان. فـ"دارفور" مثلاً كانت قد منحت حزب الأمة معظم دوائرها في الانتخابات البرلمانية التي جرت قبل أشهر، لكن "دارفور" نفسها هذه قد استقبلت الرئيس الأزهري - رئيس الحزب الوطني الاتحادي- استقبالاً جماهيرياً ليس له نظير، وفي "وادي كتم" حيث عقد المؤتمر القبلي تجمعت كل قيادات "دارفور" على اختلاف قبائلها وألوانها وأحزابها السياسية وتبارت في تكريم الرئيس والوفد المصاحب له القادم من الخرطوم، وذابت وسط حرارة الاحتفالات والترحيب الصادق الصادر عن القلوب الخلافات والنزاعات القبلية. وما زالت وبعد خمسين عاماً ترن في أذني وتتشكل أمام نظري كلمات وصورة ذلك الشيخ المهيب الطلعة الذي تقدم نحو الرئيس إسماعيل الأزهري وقال في صوت متهدج ولكنه قوي وثابت:"يا ود الأزهري... الحمد لله... الحمد لله إننا عشنا ورأينا اليوم "الحاكم العام" السوداني (يعني الرئيس الأزهري) والمدير السوداني (يعني مدير المديرية أبوسن)... ولو جاء أجلنا اليوم سنلقى المولى سبحانه وتعالى وإحنا مسرورين... ويا ود الأزهري أبشر بالخير.. أبشر بالخير". مرت بخاطري هذه الذكريات والصور القديمة وأنا أشاهد في التلفزيون "الوفود" السودانية التي ذهبت إلى "أبوجا" للبحث والتفاوض حول "أزمة دارفور" التي أصبحت بفضل حماقاتنا حيناً، وجهلنا حيناً، وأطماعنا البائسة كل الأحيان، مشكلة وأزمة دولية، يجتمع لها مجلس الأمن في نيويورك، وتتقاطر عليها القوات والمراقبون الأجانب، ليفصلوا بين المسلمين السودانيين الذين أوغلوا في دماء بعضهم بعضاً حتى الثمالة، والذين عجزوا عن أن يجتمعوا على كلمة سواء بينهم تحقق العدل والسلام وتلم شمل البلد الذي أوشك على الانهيار التام.
في الصور التي تعرضها القنوات الفضائية من "أبوجا" لمحت بين ما لمحت صوراً لرجال سودانيين من "دارفور" كان آباؤهم وأجدادهم - رحمهم الله- بين الزعماء والقادة الذين التقيتهم في وادي كتم في ذلك المؤتمر القبلي، والذي لم يمحُ الزمن صوره الجميلة من ذاكرتي حتى بعد مضي خمسين عاماً. وتساءلت ترى ما الذي حدث للسودان، وما الذي أوصلنا إلى هذا الدرك السحيق؟ هل هو الزمن الرديء، أم هل هي أجيالنا اللاحقة التي عجزت أن تحافظ على خير ما كان في جيل آبائها من مواريث سودانية جميلة حقاً؟!.