إذا كان الاستبداد هو الوجه النقيض للديمقراطية فإن التعمُّق في دراسة الاستبداد، تاريخاً وثقافة ووضعاً نفسياً، هو مطلب ملح وخطوة ضرورية لرسم طريق انتقال مجتمعات العرب من حالات الاستبداد والبطش التي تعيشها إلى حالة الديمقراطية والعدالة التي تطلبها. من هنا أهمية المحاولة التي يقوم بها مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية الذي ينتظم سنوياً في مدينة "أكسفورد" البريطانية والذي بدأ بطرح موضوع الاستبداد التغلّب في نظم الحكم المعاصرة للدولة العربية في اجتماع هذا العام.
في اعتقادي هناك سؤالان يحتاجان للإجابة عليهما كمدخل للموضوع كله. السؤال الأول يتعلق بمدى العلاقة نوعها بين ظاهرة الاستبداد في حياة العرب والمسلمين وبين بعض المفاهيم الفقهّية الإسلامية. فالقرآن الكريم وأقوال الرسول عليه الصلاة السلام المؤكدة ترفض رفضاً قاطعاً، نصاً وروحاً، كل مظاهر الاستبداد في حياة الإنسان. لكن بعض المفاهيم الفقهية، خصوصاً في تعاملها مع موضوع الولاية والحكم والخلع والثورة على الحاكم، أوجدت حالات فكرية غامضة سمحت للمستبدين بأن يستفيدوا منها. وبالتالي قادت إلى الوضع الحالي الذي نرى فيه أن موضوع الديمقراطية، نقيض الاستبداد، غير محسوم فقهياً. فالكُتاب الإسلاميون والأحزاب الإسلامية والمجتهدون غير متفقين فيما بينهم بشأن العديد من مبادئ وممارسات الديمقراطية، الأمر الذي يُبقي موضوعاً أساسياً حياتنا ومفصلياً كموضوع الديمقراطية معلقاً في الهواء، فهو موضوع بدأ يهتم به الفقهاء لكنّه لم يصبح بعد موضوعاً في الفقه، بل في صميم الفقه.
وبدون لف ولا دوران، وما دامت المدارس الفقهية القديمة مختلفة فيما بينها حول جوانب أساسية من الديمقراطية، فهل آن الأوان لخروج مدرسة فقهية جديدة تهتم، إلى جانب ما تهتم به عادة المدارس الفقهية من قضايا تهم المسلمين، بقضية الديمقراطية.
تحديداً بحيث إن من يتبع تلك المدرسة سيكون له فهم ومواقف وممارسات ديمقراطية واضحة لا لبس فيها ولا غموض يعض عليها بأسنانه، ويدافع عنها ويموت من أجلها؟ إن الإسلام، كعقيدة وثقافة وتركيبة نفسية، أصبح جزءاً من نسيج الإنسان المسلم. ولذلك يبقى الإسلام المدخل الرئيسي المعول عليه لكي تصبح الديمقراطية جزءا من ذلك النسيج للإنسان المسلم ويحسم موضوع الاستبداد في حياة العرب والمسلمين.
أما السؤال الثاني فيتعلق بالمقولة التي يرددها بعض الكتاب الأجانب والعرب من أننا، كشعوب وكمجتمعات، لدينا قابلية نفسية وثقافية للعبودية وللتعايش مع التسلط والاستبداد. وبالطبع فإن في ذلك تخريفاً وتجديفاً وعنصرية، ومع ذلك فهناك سؤال يطرح نفسه يتعلق بغياب الثورات الديمقراطية في حياة العرب. نعم لقد قامت ثورات كثيرة ضد الاستبداد والظلم، ولكن هل كانت تلك ثورات ديمقراطية لها برامج وأهداف ديمقراطية واضحة كما فعلت بعض الثورات الأخرى؟ وهل كان غموض الجانب الديمقراطي هو السبب في دخول الثورات العربية في متاهات أدت بها في النهاية إلى الموت، إلى الفوضى أو إلى الاستبداد الذي قامت من أجل محاربته؟.
دراسة الاستبداد، من أجل تفكيك آلياته والتغلب على منطقة وعزل فرسانه، أصبح من لوازم عملية الانتقال إلى الديمقراطية.