في كل يوم تقريباً، يقوم كتاب الافتتاحيات باتهام العالم أو الولايات المتحدة بعدم المبالاة بما يجري في "دارفور". أما محطات التلفزة وبعد أن قامت طويلا بتجاهل "دارفور"، فيلتف مراسلوها الآن حول أهالي "درافور" اليائسين كي يحكوا لهم عما يدور هناك. كما قامت منظمات مثل "هيومان رايتس ووتش" و"مجموعة الأزمات الدولية" بتوثيق الفضائح وتعرية الأكاذيب ودفع العالم للاستجابة. ولم يتردد رجال ذوو شأن مثل "كوفي عنان" و"كولن باول" و"جاك سترو" وغيرهم في زيارة "دارفور" ليروا ما يدور هناك بأنفسهم. وفي كل شهر يقوم وفد من الكونجرس الأميركي بزيارة المنطقة، وبعد عودته لأميركا يقوم أعضاؤه ببذل ما في وسعهم كي يجبروا حكومتهم على التصرف لحل المشكلة. أما في الأمم المتحدة فإن مجلس الأمن الدولي يقوم بعقد اجتماعات منتظمة ليقرر ما إذا كان سيصدر عقوبات بحق السودان، أم سيسلط عليه تهمة الإبادة الجماعية.
ماذا حققت كل تلك الجهود الشاقة؟ لقد ساعدت على إقناع الحكومات بالقيام بإطعام الجوعى، ولكنها لم تؤد إلى توفير الأمن لأهالي "دارفور". بل إن الحقيقة هي أن الدفاع عن سكان "دارفور" من قبل كل تلك الجهات قد أدى إلى تأثير معاكس. فالاتهامات الموجهة للحكومة السودانية دفعتها للعمل، وهو ما أدى من ناحية ثانية إلى تخفيف الضغط السياسي الذي كانت تتعرض له، على أمل أن يؤدي ذلك إلى إيقاف عمليات القتل وإعادة اللاجئين إلى ديارهم.
وعندما تصاعدت فورة الاهتمام بـ"دارفور" منذ أربعة شهور، كان هناك قرابة 100 ألف من سكانه لاجئون في تشاد، في حين نزح ما يقارب المليون من ديارهم إلى أماكن أخرى. أما الآن فيعتقد أن هذه الأرقام زادت عما كانت عليه من قبل حيث يصل عدد اللاجئين إلى تشاد 200 ألف، ويصل عدد النازحين أو المبعدين عن ديارهم إلى مليون ونصف. أما عدد القتلى الذي كان يقدر بحوالي 30 ألفاً فيعتقد أنه قد وصل الآن إلى 50 ألف قتيل. والسؤال الآن هو: لماذا فشل العالم سواء من خلال المداولات التي جرت في مجلس الأمن بشأن الموضوع، أو من خلال تقديم المساعدات المالية في حل مشكلة "دارفور"؟
إجابة السؤال بصراحة شديدة، هي أن القوى الكبرى والقوى الصغرى في العالم على حد سواء، لا تتحرك عادة إلا عندما تكون عمليات القتل التي تحدث ذات تأثير على مصالحها القومية. فهي تقول لنفسها في حالة ما إذا كانت أعمال القتل لا تؤثر على تلك المصالح: ما الداعي لتحمل المخاطر السياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية في حين أن البقاء على الخطوط الجانبية والاكتفاء بالفرجة عما يجري، لن يتسببا في أية أكلاف محلية أو استراتيجية؟
ولكن لماذا لا توجد مثل تلك الأكلاف؟ السبب أن عدد القتلى في "دارفور" حتى الآن لا يزيد على 50 ألف شخص وهو عدد يقل كثيراً عن التوقعات التي كانت تقدر هذا العدد بأنه يتراوح ما بين 300 ألف إلى 500 ألف شخص. فقد عودتنا أحداث التاريخ الأفريقي دائماً أن أعداد القتلى دائماً ما تكون مهولة. ففي الكونغو على سبيل المثال تشير التقديرات إلى أن عدد القتلى هناك قد وصل إلى ثلاثة ملايين إنسان على مدى السنوات الست الأخيرة، أما الحرب السابقة في السودان فقد نتج عنها مصرع مليوني إنسان (ومع ذلك سمح لها بالاستمرار لما يزيد على 20 عاماً)، وفي رواندا لقي 800 ألف إنسان مصرعهم، ولم يتم عمل شيء تجاه أية كارثة من تلك الكوارث.
ثانياً: إن تسليم المساعدات الإنسانية يجعل الدول الكبرى بعيدة عن التورط. فبعد تأخير لا يغتفر، تغلب العالم على معارضة الحكومة السودانية لمسألة تلقيها لمساعدات من الدول الأجنبية، وقام بإرسال الغذاء والدواء، والأغطية إلى "دارفور". وقد ساعد هذا على تخفيض عدد الخسائر البشرية، إلا أنه لم يعالج الأسباب الجوهرية للدمار الذي حدث في "دارفور". هذه الأسباب هي: الأخطاء بل الخطايا التي ارتكبتها حكومة الخرطوم، وبدرجة أقل أخطاء حركة التمرد التي شجعها اعتقادها أن الولايات المتحدة تقف إلى جانبها على اتخاذ مواقف غير مرنة.
ثالثاً، أن وجود مجلس الأمن الدولي على مسرح الأزمة "الدارفورية" يساهم في إخفاء لبِّ المشكلة. فالدول كما هو معروف لا تريد أن تفعل ما هو مطلوب منها للحيلولة دون وقوع خسائر بشرية واسعة النطاق، خصوصاً في قارة أفريقيا المضطربة والمعقدة. فالأزمات مثل أزمة "دارفور" تحتاج إلى تصرف سريع، والدول تعرف أن مجلس الأمن الدولي غير قادر على الفعل السريع، وبالتالي تعمد إلى إلقاء تلك المشكلات في دهاليز مجلس الأمن ومداولاته التي لا تنتهي حتى تهرب من القيام بأي فعل.
ما يمكننا قوله بعد كل ذلك هو إن النظام العالمي نظام معطل، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بأفريقيا.
فعلى رغم أن عدد القتلى في "دارفور" يتضاءل بالمقارنة بأعداد القتلى في رواندا 800 ألف قتيل إلا أننا حتى إذا ما افترضنا أنه سيتم قتل 800 ألف إنسان في "دارفور" الأسبوع القادم ، فإن الشيء المؤكد هو أنه لا الدول ولا مجلس الأمن الدولي سيكون لديهما الاستعداد للقيام برد فعل قوى وسريع