لقد ارتكب أولئك القتلة الجماعيون، الذين سيطروا على مدرسة "بيسلان" الروسية، أحد أشنع الأفعال "الإرهابية"، وأكثرها خسة في تاريخ العالم. صحيح أن بعض القتلة أزهقوا أرواح الأطفال، بينما قتل "إرهابيون" آخرون عدداً أكبر من الذين لقوا حتفهم داخل تلك المدرسة، إلا أنه يصعب جداً أن نتخيل، إقدام أحد مهما كانت قسوة قلبه وتجرده من الإنسانية، على إزهاق أرواح كل هذا العدد الكبير من الأطفال الأبرياء، وبضربة إجرامية واحدة! استجابة لهذه الجريمة البشعة، كان الرئيس "بوتين"، محقاً كل الحق، عندما أعلن أن بلاده لن تستسلم لمطالب وابتزازات "الإرهابيين". ومما لا ريب فيه، أن المواطنين الروس أضحوا بحاجة إلى الحماية من مثل هذه الهجمات، بينما يحتاج المجرمون إلى أن توقع بحقهم أشد درجات العقاب والجزاء.
لكن على أية حال، فإنه لا الرئيس "بوتين"، ولا الحكومة التي يرأسها في موسكو، بقادرين على توفير أي من المطلبين أعلاه. ومما زاد فظائع "بيسلان" مأساوية وسوءاً، استجابة الحكومة لتلك المأساة. ففي أعقاب نهاية ذلك الأسبوع المشؤوم، كان على "بوتين" ليس أن يراجع استراتيجيته الخاصة بمحاربة "الإرهاب" فحسب، بل أن يدرس الكيفية التي يستطيع بواسطتها، بناء دولة قوية وفاعلة في بلاده. وذلك هو ما وعد به "بوتين" الشعب الروسي، غداة تسلمه السلطة في عام 2000.
وقد لقي ذلك الوعد ترحيباً كبيراً من جانب الشعب الروسي، الذي أمضى عقداً كاملا من الاضطرابات والفوضى السياسية، علاوة على القلق الاقتصادي، وتوالي الهجمات"الإرهابية" حتى خريف عام 1999. وكان طبيعياً أن ينصرف تفكير الناس والقادة، إلى ملء الفراغ السياسي العريض الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. ولما كان "بوتين" شخصية معتدلة الفكر، فضلا عن كونه ضابطاً ذا شأن، في جهاز الاستخبارات السوفيتية السابق "كي. جي. بي"، فقد رأى فيه الكثير من الروس، رجل المرحلة وفارس القيادة.
بيد أن استراتيجية "بوتين" الرامية إلى بناء الدولة الروسية القوية التي وعد بها، تمحورت كلها حول رفع القيود والرقابة المفروضة دستورياً على السلطات الرئاسية. وبذلك فقد انصرفت الاستراتيجية عن واجب تقوية وتعزيز فاعلية مؤسسات الدولة وأجهزتها. كما أخطأ "بوتين" خطأ فادحاً بمماثلته بين الديمقراطية والضعف، وبين مركزية السلطة وقوة الحكم. وبذلك فقد قوّض أي مصدر مستقل للسلطات، بدءا بسلطة الصحافة القومية، ثم زحفه على تقويض السلطات التنفيذية في الأقاليم والجمهوريات، وصولا إلى انقضاضه على طبقة الأغنياء الروس. وضمن ذلك، أضعف "بوتين" سلطات وصلاحيات المجلس الفيدرالي، بصفته الهيئة البرلمانية العليا. كما أفلحت الحملة الانتخابية الناجحة التي أجريت في ديسمبر 2003، في تحويل مجلس النواب الأدنى، وكذلك مجلس "الدوما"، إلى مجرد أجهزة للبصم على قرارات الكرملين. وفي الاتجاه ذاته، فقد دفع الأحزاب السياسية المستقلة، ومنظمات المجتمع المدني، إلى هامش الحياة السياسية الروسية.
وفي كل خطوة تغيير خطاها "بوتين"، يلاحظ حرص واضح، على تعزيز سلطة الكرملين، مقابل إضعاف دور وسلطات المؤسسات والأجهزة السياسية الأخرى. وعليه، فإن إعادة هيكلة الحياة السياسية في روسيا، لم تسفر عن ميلاد جهاز دولة أكثر قوة وفاعلية، بل تمخضت عن نظام هزيل، فاسد وغير مسؤول. ولعل أفضل ما يمكن أن يوصف به هذا النظام، هو أنه شمولية بلا سلطات. وطبقاً لذلك، فقد أصبحت حكومة "بوتين"، نظاماً لحكم الفرد، الذي يستأثر فيه شخص واحد فحسب، باتخاذ كل القرارات. ولما كانت روسيا تلك الدولة القارية الشاسعة المترامية الأطراف، المعقدة الواقع في آن، فما أشق المسؤولية، وأكبر العبء على شخص واحد، كي ينهض به منفرداً!
وقد تكشفت هذه الحقيقة بكامل تجلياتها تماماً في مأساة "بيسلان". وبحلول هذا اليوم، فقد مضت على رئاسة "بوتين" لبلاده، خمس سنوات كاملة. غير أنها لم تفلح في بناء أجهزة شرطية وأمنية، يعول عليها في حماية المواطنين وضمان سلامة أرواحهم وممتلكاتهم. كما لم تفلح هذه الأجهزة، ومعها القوات النظامية والأجهزة الاستخباراتية مجتمعة، حتى في حماية الدولة الروسية نفسها! ومن البديهي أن وزراء ومسؤولي الأمن المعنيين، قد أخفقوا في واجبهم الأول، المتمثل في الحيلولة دون سيطرة الإرهابيين على مدرسة "بيسلان" في المقام الأول. ويعني هذا الفشل، أن الوزراء والمسؤولين المعنيين، لم يتعلموا دروس الماضي بعد. فالملاحظ أن الإرهابيين، حملوا معهم الأقنعة الواقية من الغازات السامة، مما يعنى أنهم تعلموا درس أكتوبر 2002، الذي انتهى فيه احتجاز الرهائن، إثر استخدام القوات الأمنية الروسية للغازات السامة القاتلة، في أحد مسارح العاصمة الروسية موسكو.
وفيما يبدو، فإن روسيا لا تزال مشدودة إلى ماضي تقاليدها الإدارية البالية، إذ لم تكن خطوط السلطات والصلاحيات، واضحة بين الضباط الذين تولوا مهمة تحرير الرهائن من قبضة "الإرهابيين". وكانت الاستراتيجية نفسها مضطربة: "هل نفاوض الإرهابيين أم