إذا كان الدكتور حسن الترابي زعيم حركة الإسلام السياسي في السودان لما يقارب نصف قرن تنبأ بزوال حكم "الإنقاذ" الذي قاده بعد الاستيلاء على الحكم بانقلاب عسكري عام 1989، فإن عدداً من كبار قادة الحكم الحاليين قد أبدوا خلال الأيام الأخيرة انتقادات عنيفة للقيادات العليا في النظام، واتهموا دوائر معينة باحتكار القرار السياسي وبالبعد عن مبدأ الشورى. وطالب هؤلاء بإعادة النظر في عدد من أجهزة الدولة العليا وترشيد الأداء فيها. أما أسماء هؤلاء القادة المحتجين فلم تعلن رسمياً ولكن المعروف أن بعضهم يشغل مناصب قيادية في جهاز الدولة.
إن تنبؤات الدكتور الترابي وقراءاته للموقف السياسي يمكن أن تحمل على أنها صادرة من قائد متأثر بالمرارات التي يعاني منها، بعد أن واجه وما زال يواجه سيلاً من المطاردة والاعتقال وتحريم النشاط السياسي له ولحزبه لفترة امتدت الآن نحو خمس سنوات متصلة، ولكن عندما يأتي النقد من قادة ما زالوا جزءاً من الحكم فإن الأمر يختلف تماماً.
ويلاحظ أن مذكرة النقد التي قدمها القادة المشار إليهم أعلاه جاءت بعد نشر صحيفة "الرأي العام" السودانية سلسلة مقالات للمفكر الإسلامي السياسي الدكتور حسن مكي حمل فيها حملة لا هوادة فيها ضد ممارسات حكم الإنقاذ ووصفه بالفشل التام. والدكتور حسن مكي لا يشغل منصباً دستورياً أو وظيفة تنفيذية ولكن يعد في مقدمة مفكري النظام والممسكين بالملف الأيديولوجي فيه، ولهذا فإن لأفكاره وتقديراته وزناً خاصاً.
يقول الدكتور مكي في الحلقة الثالثة من مقالاته تلك ما نصه: إن مسوغات التفويض أو التجديد للحكومة الحالية غير مبررة، لأنها فشلت في إقامة مؤسسات حكم قوية وقادرة على المحاسبة، وفشلت في قضية الشفافية والكارثة فشلها في حفظ الأمن مما أدى إلى انقلاب أوضاع دارفور. كما أن الفشل في حفظ الأمن يعني فشلها في رعاية وتنمية المؤسسات القومية التي قام عليها السودان وظلت مسؤولة عن حفظ حدوده وأوضاعه. ثم قال: أبعد الدكتور الترابي لتحل محله عقلية قابضة، واستغنت بذهاب الترابي المطلوبات والحيثيات المتعلقة بذهابه من شورى ومحاسبة ومؤسسية وشفافية.
إن هذه الحقائق تطرح لنا بصورة عامة قدراً مهماً من المشاكل التي يواجهها نظام حكم "الإنقاذ" من داخله وليس من حلفائه السابقين "الترابي" فحسب، بل من عناصر من قلب النظام، وأعني دعاته الذين كانوا حتى وقت قريب، يدافعون ويبررون الأخطاء، وفي هذا دلالات على أن حكم الإسلاميين السودانيين لا يواجه الآن ضغوطاً متعددة ومتصاعدة من الخارج وحده، بل هناك ضغوط أخرى من داخل النظام نفسه، وأنه ما لم تلتفت القيادات الماسكة بزمام الحكم والقرار فإن المستقبل لا يبشر باستقرار كثير لمواصلة هذه الجماعة لحكمها لفترة أخرى.
وفي هذا فإن الحكماء داخل النظام وخارجه يدعون بإلحاح ومواصلة إلى أن يتنازل الإسلاميون عن بعض ما تحت أيديهم من سلطة، ويفتحوا الباب بجدٍ وصدق لدعوة كل الأحزاب السياسية للمشاركة في الحكم لتحمل المسؤولية معاً وللحفاظ على السفينة من الغرق قبل فوات الأوان. إنه نداء يقول لقد حان الحين ليكون السودان أو لا يكون.