لكونه ولد في منطقة عريقة عرفت بحيتانها الضخمة العملاقة، فقد أمضى السيد ناسليك، معظم حياته في العيش داخل الكهوف الجليدية، وقيادة فرق الكلاب لاصطياد الأيائل وغيرها من الحيوانات التي تعيش في السهول القطبية الجرداء. إلا أن ناسليك، يعيش اليوم في بيت حديث مريح، به كنب منجدة بالقطائف الفاخرة في صالون الاستقبال، وقد أحاطت بمطبخه منتجات حديثة، وأفخر أفران المايكرويف، وغيرها من أجهزة ووسائل الرفاهية، إلى جانب جهاز ستيريو ضخم، يسمع عبر مكبرات صوته، أحب وأعذب الألحان القديمة لقبائل الإسكيمو. ومما لا شك فيه أن الحياة سهلة ومبهجة بالنسبة إليه في هذا البيت العصري الفاخر. إلا أنه يبدي قلقاً إزاء ما يجري من تغيرات للبيئة الفطرية المحيطة بتلك القرى الصغيرة المجاورة لأحد الأنهار الجليدية، الذي كان قد جرى للتو أسفل الحزام القطبي.
ومما أبداه ناسليك من ملاحظات، فإن حيوانات الأيل تبدو نحيفة وهزيلة أكثر مما يفترض، وكذلك هو حال الفقمة مطوقة العنق. وقال إن فراء هذا النوع، قد أصبحت خفيفة ومنقطة. أما أسماك الشار القطبية التي اعتادت السباحة في هذه الأنهار المحلية، فإن أجسامها أضحت مغطاة بالخدوش، ربما جراء احتكاكها بالصخور الحادة، نتيجة لانخفاض منسوب ماء النهر، ونتيجة لتغير المناخ. كما أن قطعان الدلافين البيضاء والفقمات، لم تعد تجوب المكان مثلما اعتادت في الماضي. ولعل السبب وراء هذا الغياب، هو كثرة القوارب التي تعمل بالمحركات، وما تسببه لتلك الحيتان والفقمات من إزعاج يفوق درجة احتمالها. وتعليقاً على هذه الملاحظات، قال ناسليك: ربما كانت هذه هي الطريقة العادية التي تحدث بها الأشياء ويتغير فيها سلوك الحيوانات حسب تغير الظروف التي تعيش فيها. وعموماً فإنني لا أستطيع أن أفسر لك الأسباب، غير أن الأجيال الشابة من قبائل الإسكيمو، تفضل تناول الفقمات حديثة السن، ظناً منها أن الفقمات الأكبر قد تعرضت لكثير من التلوث المضر بصحة الإنسان.
أما العلماء القادرون على تفسير أسباب مختلف الظواهر الواقعة في مجال ودائرة تخصصهم، فيذهبون للقول، إن ما يتحدث عنه السيد ناسليك من ملاحظات، إنما هو ناتج عن تغيرات مناخية من جانب، إضافة إلى التراكم البطيء والتدريجي، في الملوثات القطبية مثل استخدام المبيدات الحشرية، والمركبات الكيماوية الصناعية، مثل الزئبق ومركبات بي سي بي، التي تنقلها الرياح والتيارات البحرية من المجمعات الصناعية المجاورة، ثم تتراكم فوق الأجسام الدهنية للحيوانات القطبية. ومما لا شك فيه أن البشر الذين يتناولون لحوم هذه الحيوانات، يتأثرون صحياً بما تراكم فوق أجسام تلك الحيوانات من ملوثات كيماوية صناعية. فقد كشفت التحاليل الطبية التي أجريت للأمهات في منطقة الإسكيمو، عن تراكم كميات من الملوثات الكيماوية في حليب ثديها.
وقد تبادل ناسليك الملاحظات حول التغيرات التي شهدتها المنطقة، مع زملائه من الصيادين الآخرين، وكبار السن من أهل القرى الجليدية التي نشأ فيها وترعرع. ولم تكن هذه المجموعة من رجال الإسكيمو وحدها، بل كان بصحبتهم عدد من الباحثين والعلماء الذين جاءوا إلى هذه المنطقة خصيصاً، بغية التعلم والاستفادة من خبرة قدامى الصيادين من أهل المنطقة، وتسجيل ملاحظاتهم، وتضمين ما يرونه منها في أبحاثهم العلمية. فمن الناحية العلمية، تكون لخبرة مثل هؤلاء الأشخاص أهمية كبيرة، بسبب طبيعة الملاحظات التي يبدونها حول بيئتهم التي خبروها وعاشوا فيها طوال حياتهم. وهذا يعني أن لهم ذاكرة بيئية قوية، وعيناً مفتوحة دائماً على ما يلحظونه من تغيرات ظلت تجري أمامهم وحولهم لمدة طويلة من الزمان.
غير أن الباحثين والعلماء جاءوا لهدف آخر، لا يقل أهمية عن الهدف الأول، ألا وهو تعليم مجموعات الإسكيمو- التي يفضل تسميتها بقبائل الإنيويت- كيفية جمع المعلومات العلمية وقياس وفحص الحيوانات التي يجري صيدها، ورصد التغيرات التي تطرأ عليها، من تغيرات الحجم والشكل، وحتى التغيرات في تكدس الطبقة الدهنية التي تغطي أجسامها. ينتمي فريق الأبحاث العلمية القطبية هذا، إلى "صندوق الحياة الفطرية الدولي" الكندي وجامعة تيرينتي الكندية. واضطلع الفريق بجمع معلومات وملاحظات من 101 من صيادي المنطقة القطبية، أسفرت عن نتائج مزعجة ومثيرة للقلق حول تأثيرات التغير المناخي في المنطقة القطبية الشمالية.
فعلى سبيل المثال، كانت منطقة "باجنيرتونج" التي زارها العلماء وأجروا دراساتهم فيها، كانت تغطى بالجليد بين شهري أكتوبر ويوليو. إلا أن المواطنين المقيمين لمدة طويلة فيها يقولون إنها لم تتجمد إلا بين شهري ديسمبر ومايو! في الاتجاه ذاته، وتأكيداً لمصداقية الأهالي، ذكرت تقارير إدارة الأرصاد الجوي الكندية للعامين 2002- 2003، أن صيفي هذين العامين تحديداً، كانا حارين، سيما في المناطق الشرقية من المنطقة القطبية الكندية. أما الثلاثة شتاءات الأخيرة، فقد ظل فيها الطقس معتدلا، على غير العادة والمنطق. وضمن ذلك لاحظ العلماء أن هجرة واتجاهات ال