تتحدث الأوساط الاقتصادية والسياسية والتجارية هذه الأيام عن الارتفاع الشديد في أسعار النفط الخام، وتتناقل وسائل الإعلام العالمية التحليلات والتوقعات والتنبؤات حول ما يمكن أن يحدثه هذا الارتفاع من آثار سلبية على اقتصادات الدول على مدار العالم غنيّها وفقيرها. وتستغل كافة الأوساط المعنية في الدول الصناعية ارتفاع أسعار النفط الخام لكي تلقي باللائمة على الدول المنتجة خاصة تلك التي تنتمي منها إلى العالم النامي، وبالأخص الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط أوبيك.
ولكن العديد من العارفين ببواطن الأمور والضليعين في تحركات أسعار النفط ارتفاعاً أو انخفاضاً، لهم وجهة نظر أخرى حول ما يدفعه المستهلك العادي هذه الأيام، سواء كان ذلك في مضخات وقود السيارات أم وقود آلات المصانع أم وسائل إنتاج الطاقة الكهربائية أم وسائل الطبخ والتكييف. فيقول البعض منهم إن أسعار الطاقة التي يدفعها المستهلك لا تزال منخفضة نسبياً عما كانت عليه قبل عقد من الزمان. ولكن هذا الطرح بالنسبة لغير المتخصصين يبدو غريباً، فكيف يمكن أن تكون تلك هي الحقيقة في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار النفط ارتفاعاً صاروخياً بلغت نسبته حوالي 45 في المئة عما كانت عليه قبل سنة من الآن؟ لقد بلغ سعر برميل النفط الخام في أواسط شهر أغسطس 2004 حوالي 50 دولاراً أميركياً للبرميل الواحد.
إن المتخصصين في هذا المجال يقولون إن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار عامل التضخم الذي تبلغ نسبته أرقاماً مخيفة في بعض دول الغرب الصناعية، وإنه لا يجب أن تلام أوبيك على ما يحدث حالياً من تقلبات شديدة في الأسعار في الوقت الراهن، فهذا التجمع النفطي تتواجد لديه قدرات إنتاجية محدودة لمقابلة الطلب العالمي المتزايد الآتي من الدول حديثة الدخول إلى مجال الصناعة الواسعة المخصص إنتاجها للتصدير إلى الخارج كالصين والهند وبعض دول شرق وجنوب شرق آسيا. ويضاف إلى ذلك مجموعة عوامل محلية وإقليمية ودولية لها أبعادها الداخلية والخارجية. ومن جانب آخر فإن المراقبين يرون أنه من ناحية واقعية فإن سعر 50 دولاراً للبرميل في هذه المرحلة من تطور أسعار النفط والتطور الاقتصادي العالمي بشكل عام يبقى سعراً أقل من نصف سقف السعر القياسي الذي تم وضعه أثناء الارتفاع الذي وصل إليه سعر برميل النفط الخام خلال الأزمة النفطية لعام 1980. إن الأوضاع اليوم تعتبر أفضل كثيراً أيضاً عما كانت عليه في السابق لأسباب أخرى عديدة، تبدأ من أن اقتصادات دول الغرب الصناعي أصبحت أكثر كفاءة من حيث الاستخدام الأمثل لما يتوافر لديها من مصادر الطاقة خاصة النفط، وتمر عبر الثقافة الشعبية الخاصة باستخدام الطاقة التي باتت تركز على تعليم الإنسان كيفية المحافظة على الطاقة والاقتصاد الشديد في استخدامها، وتنتهي بوجود مخزونات نفطية استراتيجية ضخمة تجعل دول الغرب أكثر استعداداً لمواجهة أي طارئ غير متوقع يلم بها.
إنها الآن في أوضاع احتياطية أفضل مما كانت عليه عند وقوع أزمة 1973 النفطية. وعليه فإن المستهلك الغربي بالتحديد عندما يذهب هذه الأيام إلى محطة وقود السيارات مثلاً فإنه يستطيع أن يملأ خزان سيارته كما يشاء. أما خلال أزمة 1973-1974 فإنه لم يكن يستطيع شراء أكثر من عشرة جالونات أو أنه في أحسن الأحوال كان يستطيع ملء خزان سيارته بالكامل خلال أيام محددة من الأسبوع أو حتى الشهر. والقصد من ذلك هو التوضيح بأنه لا توجد أزمة عرض حقيقية في النفط، فهو كسلعة متاحة التداول فلا توجد مقاطعة نفطية ولا حظر على التصدير. ويرتبط بذلك أن العامل النفسي السلبي لدى المستهلك الغربي الآتي من إمكانية عدم حصوله المطلق على النفط غير قائم، فهو يستطيع شراء السلعة وإن كان ذلك في مقابل سعر يعتبر مرتفعاً.
ونصل إلى القول إنه في الوقت الذي هي عليه أسواق النفط في حالة توازن بين العرض والطلب إلا أنه توجد عدة عوامل تبقي الأسعار مرتفعة، منها عامل الخوف من حصول انقطاع في التدفقات النفطية بسبب أعمال إرهابية قد تقع، وعامل أن الدول المنتجة للنفط تعمل الآن بكامل طاقتها الإنتاجية، ولو زاد الطلب حدة في الأسابيع القليلة القادمة قبل حلول فصل الشتاء فإنها لن تكون قادرة على مقابلة الطلب. وعامل الطلب العالمي الآتي من الدول الصناعية الجديدة في آسيا. وأخيراً عامل دخول المضاربين المغامرين في سوق النفط الذي يزيد في تفاقم الأسعار. ونتيجة لذلك يمكن القول إن الارتفاع الحالي في أسعار النفط ربما يكون ناشئاً عن أزمة تكاد تكون مفتعلة.