ليس هناك ما يدعو للدهشة عندما يقوم رئيس أميركي بتوظيف خبراء في مجال العلاقات العامة، من أجل صياغة رسالة إعلامية تهدف إلى جعل سياسات الإدارة التي يقودها أكثر قبولا لدى الناخب الأميركي، لأن تلك الممارسة في الحقيقة تعد من الممارسات الراسخة في حقل السياسة الأميركية منذ عقود بعيدة. ولكن عندما يقوم الرئيس ببناء تلك الرسالة بالكامل على أساس ليِّ عنق الحقيقة وتحريفها وتشويهها، فإن الأمر يغدو مختلفاً تماماً. فحسب ما يقوله مؤلفو الكتاب الذي نقوم بعرضه في هذه المساحة وعنوانه: كل أكاذيب الرئيس: جورج دبليو بوش، والميديا، والحقيقة، وهم بن فريتز، وبرايان كيفر، وبريندان نايهان، فإن الإدارة الأميركية ومنذ أن جاءت إلى الحكم، دأبت على استخدام أساليب الخداع، وعلى ممارسة الكذب والتلفيق، وعمدت إلى استخدام لغة خطابية ملتبسة، وعلى انتقاء الحقائق- أو أنصاف الحقائق في الواقع- التي تصب في مصلحتها، وتساعدها على تحقيق أهدافها المعلنة أو غير المعلنة، مع تجاهل الحقائق التي تتعارض مع تحقيق تلك الأهداف. كما لجأت في مناسبات عديدة إلى استخدام أدلة ضعيفة وغير موثوق بها، كي تسوق للشعب الأميركي سياسات فاشلة وغير مستساغة، مثل سياسة الخفض الضريبي التي جاء بها بوش، والتي كان القصد منها في الأساس خدمة الطبقات الثرية في المجتمع، ومثل سياسة الرعاية الصحية التي تجاهلت مصالح الطبقات الوسطى والفقيرة، ومثل سياسة الإدارة في المجال البيئي التي يصفها مؤلفو كتابنا هذا بأنها سياسة كارثية ألحقت أكبر الأضرار بسمعة أميركا كما أنها كانت سياسة صديقة لرجال الأعمال والمصالح التجارية Business friendly. أو لكي تقنع الشعب بالأسباب التي دفعتها لشن الحرب ضد العراق والتي تبين فيما بعد أنها أسباب زائفة. وفي الوقت الذي يوجد فيه لدى المؤلفين عدد كبير من التهم التي يمكن أن يوجهوها إلى تلك الإدارة، فإن لديهم أيضاً العديد من المعلومات والأدلة والقرائن، التي تسمح لهم بتوجيه أصابع الاتهام إلى وسائل الإعلام الأميركية التي دأبت- كما يقولون- على ترديد أكاذيب الإدارة كالببغاء، وبثها عبر الأثير دون تمحيص ولا تدقيق، مبتورة عن سياقها الحقيقي، ثم تقديمها إلى الشعب المخدوع وكأنها حقائق موضوعية لا يرقي إليها الشك.
ويضرب المؤلفون أمثلة عديدة لإثبات صحة وجهة نظرهم في الإعلام الأميركي، ومنها تلك المرات العديدة التي ظهر فيها مسؤولون كبار في إدارة بوش في برامج حوارية على شاشات "سي.إن.إن" أو غيرها من شبكات التلفزة الإخبارية الأميركية، كي يدلوا بآرائهم حول مسألة ما، أو كي يشرحوا سياسة، أو يبرروها مستخدمين في ذلك حججاً وأساليب يعرف الشعب الأميركي كله أنها زائفة، أو أنها تمثل أنصاف حقائق على أفضل تقدير، أو كذباً فاضحاً في أسوئه. ومع ذلك كان مقدمو تلك البرامج وهم عادة من الشخصيات الإعلامية المرموقة يقومون- كما يقول المؤلفون- بالتغاضي عن مثل هذا التلفيق وتمريره دون تعليق، بل والكتابة عنه أيضاً فيما بعد في صحف مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست كما كان يفعل وولف بليتزر المؤلف الشهير على سبيل المثال لا الحصر.
ويقوم مؤلفو الكتاب وهم بالمناسبة مؤسسو موقع التحليل السياسي المعروف المسمى (سبنسانيتي) Spinsanity، ببيان كيف كانت إدارة بوش - ربما أكثر من أية إدارة سابقة في التاريخ الأميركي بأسره- تقوم بانتقاء معلومات معينة ترى أنها قد تكون مفيدة في ترويج سياساتها، بصرف النظر عن مدى تمثيلها للحقيقة، ثم تقوم بعد ذلك بوضعها في إطار جذاب، من خلال الإلحاح الدعائي المستمر الذي يجعلها تكتسب في النهاية شكل الحقائق الموضوعية. والمؤلفون يرون أن إدارة بوش قد تفوقت على جميع الإدارات السابقة عليها في استخدام وسائل الكذب وأساليب الخداع من أجل تحقيق أهدافها الحزبية أو مآرب أعضائها الشخصية. فبوش على سبيل المثال تعهد في حملته الانتخابية عام 2000 بأنه سيسترد (الشرف والنزاهة) للبيت الأبيض، ملمحاً في ذلك من طرف خفي للفضائح الجنسية التي كان سلفه بيل كلينتون قد ارتكبها إبان سنوات حكمه. ولكنه بدلا من أن يفعل ذلك، قام كما يقول المؤلفون (بشن حرب على الأمانة)، واتبع سياسة تقوم على التحريف المتعمد والمستمر للحقائق، وعلى سوء استغلال وسائل الإعلام من أجل تسويق أجندته للشعب الأميركي.
ربما يعتقد الكثيرون- وبالذات الجمهوريون- بمجرد أن يقع نظرهم على عنوان الكتاب، أنه ينتمي إلى سلسلة الكتب المناوئة لبوش، والتي ظهر منها عدد كبير في الآونة الأخيرة، وأن مؤلفيه- وهم من الديمقراطيين- سيقومون بلي عنق الحقيقة، لتأييد وجهة نظرهم المعادية للإدارة وسياساتها. ولكن الأمر لم يكن كذلك، لأن هؤلاء المؤلفين كانوا منصفين تماماً في طرحهم بدليل أنهم وجهوا في كتابهم هذا نقداً لجون كيري مرشح الحزب الديمقراطي لخوض انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2004، ووصفوه بأنه رجل يخوض اللعبة الديمقراطية والمعركة الانتخابية وفقاً للقواعد التي وضعها بوش، وأنه قد قام بتوجيه العديد من الت