ليس هنالك إنسان سوي العقل والقلب - ناهيك عن إنسان مسلم صحيح الإيمان والإسلام- يمكن أن يتعاطف أو يؤيد ما قامت به جماعة مسلحة في بلدة بيسلان الروسية من احتجاز لمئات الأطفال والأمهات كرهائن، وما أسفر عن تلك العملية الوحشية والبالغة القسوة من مذابح. ومهما كانت عدالة القضية التي من أجلها حمل المسلحون السلاح فإن الغاية هنا لا يمكن أن تبرر الوسيلة. فالأطفال هم الأطفال لأية مِلة أو جنس أو أرض انتسب آباؤهم وأمهاتهم، يجب أن يبقوا بمنأى عن العنف وسفك الدماء، وحمايتهم هي مسؤولية ضميرية وإنسانية دعت إليها كل الشرائع السماوية والأرضية. لذلك لم يكن غريباً أن يستنكر الناس في شتى بقاع المعمورة تلك العملية الوحشية والإجرامية التي جرت فصولها الدامية في بلدة بيسلان عند أطراف جمهورية أوسيتيا المتاخمة لحدود جمهورية الشيشان. وأن يشمل الاستنكار والإدانة الدولية حتى أولئك الشيشان الذين يعارضون السلطة الروسية ويسعون إلى استقلال بلادهم.
عندما يتعدى النضال الوطني لأي شعب أو جماعة تهدف إلى تحقيق حقها في السيادة والاستقلال الحدود الإنسانية والعقلانية، ويصل إلى ذلك المدى الشنيع والإجرامي من العنف وافتقاد العقل والرشد، فلن يجد المدافعون عن القضية العادلة والمتعاطفون معهم منطقاً يتحدثون به مع العالم. والمقارنة هنا بما تقوم به إسرائيل بشكل شبه يومي من رجم الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين بالصواريخ واغتيالهم في وضح النهار لا تجدي. فما تقوم به إسرائيل وقوات الاحتلال في العراق من جرائم في حق المدنيين هنالك هي محل إدانة واستنكار من كل القوى الإنسانية الخيرة حتى داخل أميركا وإسرائيل. والمناضلون ضد الاحتلال الإسرائيلي والأميركي يكسبون احترام العالم وتعاطفه معهم عندما يكون نضالهم موجهاً ضد الأهداف الحقيقية التي تشكل المفاصل القوية لقوات الاحتلال، وليس من بينها الأطفال والصحفيون مثل الصحفيين الفرنسيين اللذين ذهبا إلى العراق لأداء مهمتهما المهنية ولم يذهبا غزاة أو مستعمرين للعراق.
إن سياسة دولة الرئيس بوتين الروسية في الشيشان وغيرها من الجمهوريات الآسيوية الإسلامية، سياسة خرقاء واستعمارية، وما ارتكبته قوات الأمن والجيوش الروسية في حق السكان الأبرياء الطامحين لاستقلال بلدانهم أمر مرفوض، وقد كانت المعارضة لسياسة بوتين هذه تتزايد كل يوم وتكسب أنصاراً ومؤيدين داخل روسيا وفي الخارج، حتى قبيل أسابيع من بداية موجة العنف التي بدأت بحادث انفجار الطائرتين الروسيتين. وينظر المرء بعد أحداث مذبحة بيسلان فيجد أن الأنظار كلها الآن تتجه نحو العملية الإجرامية وما تحمله أجهزة الإعلام من صور وأنباء وتحليلات حولها، ويجد أيضاً أن بوتين وسلطته قد استغلا ببراعة هذا الحدث ليكسبا تعاطف الروس والعالم ولتبدأ جولة أخرى من عنف وإرهاب الدولة ضد تلك الشعوب المقهورة. كما أن بوتين سيدعو العالم لمشاركته في الحرب ضد الإرهاب الدولي أسوة بما يفعله صديقه الرئيس الأميركي بوش.
إن أنبل القضايا تضيع عندما يفقد الساعون من أجلها العقل، وينحطون بأساليبهم إلى درك خصومهم ويتحولون مثلهم من مناضلين إلى قتلة وسفاحين.