في الولايات المتحدة الأميركية تفوق أعداد البضائع المختلفة المعروضة عدد كل الكائنات الحيّة الموجودة فوق سطح الأرض، ويصل عدد التجمعات التجارية الكبيرة حوالي ثلاثة أضعاف المدارس الثانوية. من أجل الإبقاء على هذا الزخم الهائل في الإنتاج والعرض والبيع لابد من وجود ماكينة بالغة الكفاءة والحيلة لإقناع الناس بالاستمرار الدائم في الشراء والانغماس العميق في حركة الاستهلاك النهم دون استعمال للعقل أو المنطق.
في قلب هذا المحيط المليء بالأخطار يقف الأطفال الأبرياء كأحد أهم أهداف تلك الماكينة المتمثلة بالطبع في شتى صنوف الإعلان. فأدبيات الإعلان تعلن أن الطفل هو الهدف لأنه هو المستهلك في المستقبل. فالإعلان يجب أن يُسمَّن الأطفال من أجل أن يأكلهم في المستقبل. لكن عملية التسمين هذه تحمل للأطفال أخطاراً ثقافية وصحية ونفسية وتحمل للعائلة إمكانية السقوط في عملية الابتزاز. فقد بيّنت الدراسات أن حوالي نصف ما تشتريه العائلة من بضائع هو من وحي وإصرار وعويل أطفالها.
من هنا كثر الحديث مؤخراً عمَّا يجب أن تفعله الدولة الوطنية تجاه ظاهرة الإعلان الموجّه إلى الأطفال، وذلك من أجل حمايتهم من تلاعباته وأكاذيبه وإيحاءاته التي تجعلهم في المستقبل أسيري شقة الاستهلاك ولعل السويد تقف في مقدمة الدول التي استجمعت شجاعتها في وجه اخطبوط مؤسسات الإعلان الكبرى ووضعت ضوابط للإعلان التلفزيوني للأطفال. لقد منعت كل أنواع الإعلان التلفزيوني، بما فيها إعلانات اللباس والأكل والشّراب والألعاب، الموجَّهة للأطفال الذين تقل أعمارهم عن الثانية عشرة سنة. كما وضعت ضوابط عديدة أخرى لا مجال لذكرها الآن.
السويد ليست أقل رأسمالية من دول الخليج، لكن قلبها على مستقبل وسلامة أطفالها. ودول الخليج الغنية ليست بحاجة ماسة لعائدات الإعلانات للاستمرار في بثها التلفزيوني، لكن قلبها على حجم جيوب كبارها. وإلا كيف يفسّر الإنسان توجّه جميع محطات تلفزيونات المنطقة تقريباً نحو المزيد المملّ من الإعلانات وعلى رأسها الإعلانات الموجّهة للأطفال الصّغار؟ وإلا كيف يفسّر تغير القلوب، وحيث تسمح لإعلانات السجائر والتبغ بالعودة بكثافة بعد أن كانت ممنوعة منذ ربع قرن وهي التي تتوجه في الأساس نحو اليافعين والشباب؟
في الغرب يتحدثون عن ضرورة الحرية الكاملة للإعلان حتى تتوقف عجلة الإنتاج المكثّف. لكن في الخليج الذي يستورد كل شيء تقريباً هل هناك مبرر لعدم تدخل الدولة لضبط حركة الإعلان وعلى الأخص بالنسبة للأطفال؟ إن قراراً خليجياً واحداً في مجلس التعاون مطلوب لضبط الإعلان المحلي، ولضبط الإعلان الذي تبثه المحطات الخارجية الفضائية، للوقوف أمام ضغوط مؤسسات الإعلان المعولمة العملاقة، وللبدء بوقف تغلغل الشركات إلى داخل المدارس من خلال تبنيها لنشاطات ظاهرها تشجيع الناشئة وباطنها تعلقهم بمنتجاتها. ومع تفجّر التعليم الخاص الذي تباركه الدول ستجد تلك الشركات لنفسها مجالاً هائلاً للتسلل.
في استفتاء ديمقراطي وقف ثمانية وثمانون في المئة من السويديين مع حكومتهم ضد الطامعين في أولادهم، فالشعوب، بعكس الطغاة والسارقين، لا تقبل أن تعيش على حساب الأبرياء والقضية ليست اقتصادية، إنها قضية فسخ لفكر ومشاعر ذوق كل الأبرياء.