حصلت مذبحة للرهائن من أطفال المدارس في أقليم أوسيتيا الشمالية التابع للفيدرالية الروسية في سبتمبر 2004 وحصدت المئات من الأرواح. وقبل هذا حصلت مذبحة أخرى في مسرح روسي في العاصمة موسكو. استخدمت فيها القوات الخاصة الروسية غازا مخدرا ترك أثره في قتل الرهائن أكثر مما فعل المختطفون. وما فعلته القوات الخاصة في أحداث المسرح كررته على نحو أفظع في واقعة بيسلان. وتناقل الناس نكتة تقول إن ما هو أفظع من الخطف أن يأتي كوماندوز للتحرير. وسبق الروس غيرهم بمراحل في كارثة سبتمبر 2004. ومن يتأمل الحادثة واقفة بذاتها لا يفهمها. وكل لقطة في فيلم لا تفهم مجمدة لوحدها في خانة الزمن. وكل حدث لا يفهم معلقا لوحده حينما ينفصل عن تتابع الأحداث. وكل حدث هو في علاقة جدلية مع ما قبله ومع ما بعده. أي أن كل حدث هو سبب ونتيجة في نفس الوقت. فهو سبب لما سيأتي بعده وهو بنفس الوقت نتيجة لما حدث قبله. وتصور من هذا النوع مريح ومنطقي في فهم الأحداث الدامية في الشيشان من حين لآخر. وقصة الصراع في قفقاسيا ليست وليدة اليوم بل تعود إلى قرون خلت. وفي منتصف القرن التاسع عشر حصلت هجرة كبيرة بسبب الاضطهاد القيصري. ومن أعجب الغرائب أن الكثير من الشراكسة اعتنق الشيوعية من حيث اضطهدوا فكان مثلهم مثل من استبدل السل بالإيدز. والشراكسة هم حصاد ذلك النزوح الجماعي من بلادهم الجميلة وهم موزعون في تركيا وفلسطين وسوريا والأردن وحتى البوسنة. ومنطقة قفقاسيا هي المنطقة الممتدة من بحر قزوين والبحر الأسود. وهم شعوب شتى ويتكلمون بلغات شتى ولكن نسيجهم الاجتماعي متشابه ويدينون بالإسلام. نفوسهم أبية وأشكالهم جميلة واعتدادهم بأنفسهم هائل وهم مقاتلون أشداء أصحاب فروسية، والمرأة فيهم لها شخصيتها المستقلة. والاحتكاك بين روسيا وهذه المناطق اتسم دوما ومنذ قرون بالحروب الدامية والهجرات المستمرة والدموع والآلام. وبالنسبة لشعب الشيشان فإن المحنة بلغت عندهم الذروة. وقامت مجلة در شبيجل الألمانية باستعراض محنة هذا الشعب على نحو تاريخي منذ القرن الخامس عشر للميلاد مع بناء القلعة المرعبة (جروزني). وفي الحرب العالمية الثانية ظن الشعب الشيشاني أن الخلاص جاءه على يد النازيين فكلفهم هذا أن قام ستالين باقتلاع الشعب الشيشاني بالكامل بعملية جراحية فحمله إلى معسكرات اعتقال جماعية في سيبيريا حتى أعادهم خروتشوف. وعندما حصلت الحرب الشيشانية الأولى في التسعينيات نقلت قناة الديسكفري عن (بوريس يلتسين) أمرا عجيبا من إدمانه على الخمر واتخاذه قرار مهاجمة الجمهورية على نحو منفرد تحت تأثير الخمر. فكلفت هذه الحماقة مقتل عشرات الآلاف من الطرفين وتدمير جمهورية الشيشان. والرجل كان يعاقر الخمرة إلى الحد الذي يفقد السيطرة على نفسه. والمهم فالذي حدث في مذبحة الأطفال وراءه ذلك التاريخ المرير من تدمير الشعب الشيشاني ومحاولة انتقامه من الشعب الروسي ولو من الأطفال الأبرياء، ونقلت مجلة الشبيجل الألمانية عن عجوز شيشانية قولها سوف يقاتل أبنائي الروس ثم أولادهم فأولاد أولادهم.
واليوم تحول الموضوع إلى شيء أكبر أمام الشباب المتحمس الإسلامي الذي يوحي إليه أن هناك مكانا يجاهد فيه في سبيل الله كما حصل في أفغانستان والبوسنة وهناك متطوعون من كل الأرض ومنهم العرب ومن كل بلد يشعرون في أعماقهم أنهم يفعلون أفضل شيء ممكن.
وهذه الكوارث سوف تستمر والدماء سوف تسيل حتى يحصل توازن من العدل والتفاهم. والروس لهم أطماعهم في المنطقة وقصة البترول وامتداداتها عبر قفقاسيا تلعب دورا في المسألة. وقصة الوصول إلى المياه الدافئة حلم قيصري قديم. ولذا سوف تستمر هذه المذابح المتبادلة والتي يدفع الأبرياء فيها الثمن الباهظ. وليس هناك أرخص من العدل، ولكن حماقة السياسيين أعيت من يداويها.
وهذا الكلام ليس تبريرا للإرهاب ولكنه عمل مخبري بارد مثل دراسة أنسجة السرطان تحت المجهر.
وقعت تحت يدي قصة مروعة بعنوان (آخر الراحلين) تشرح نهاية أحد شعوب قفقاسيا هم شعب (الوبيخ) فلم يبق منهم سوى رجل واحد اسمه (زاورقان) روى نهاية هذا الشعب. وأعترف أنني شخصيا لم أكن أعرف محنة هذا الشعب حتى قرأت هذه القصة الحزينة التي ترجمت إلى عشر لغات ومنها العربية. ومع قراءتي لهذه القصة أصبت بصدمة عاطفية دامت معي لمدة أسبوعين، وهي رواية لا تترك أحدا إلا وتزلزله فيسيل الدمع أكثر من مرة على صفحات الكتاب حتى يكاد لا يبين الأسطر.
فهذه هي محزنة الروس والشيشان.