كان العالم يراقب ما يحدث في بلاد الرافدين من قتل ونحر جماعي حين بوغت بخبر مهاجمة مجموعة مسلحة إحدى المدارس في إقليم "أوسيتيا" الشمالية جنوبي روسيا في أول يوم دراسي. واحتجاز ما يقارب الـ 300 رهينة معظمهم من الأطفال حسب الحكومة الروسية إلا أن الأرقام سرعان ما تصاعدت وبدا أن العدد يزيد أضعافاً مضاعفة على الأرقام الرسمية المعلنة. ثلاثة أيام حتى كان اليوم الدامي وعبر عدسات المصورين كان العالم يراقب عاجزاً أمام الجنون المطلق. احتجاز أطفال وذويهم ومدرسيهم فأية قضية- إن كانت للخاطفين قضية- تستخدم أكثر الأساليب شيطانية، تدخل الأطفال في محرقة الصراعات السياسية؟ حقارة ما بعدها حقارة وبين الترقب والأمل كانت المأساة. ستطارد وعينا ولاوعينا صور أطفال مذعورين يتراكضون عراة في كل اتجاه هرباً من الموت. صور الجثث المتفحمة، صور ما كان مدرسة وحتى تباغتنا صور أفظع سيبقى السؤال عالقا: لماذا؟
نكست الأعلام وأعلن الحداد العام. موت جماعي، أرقام الموتى في تصاعد، فعملية تحرير الرهائن حررت الأرواح قبل الأجساد ووسط كل الغموض المحيط، الصورة لازالت غير واضحة وقد تظل كذلك كما يراد لها. وتقتضي الموضوعية عدم التسرع في إصدار الأحكام، لكن الصور تستدعي إجابات عاجلة جاءت من رئاسة الاتحاد الأوروبي الهولندية ممثلة بوزير الخارجية الهولندي مطالباً بتفسير للطريقة التي تعاملت بها القوات الروسية مع الأزمة وكان الرد الروسي عليه بياناً شديد اللهجة. إلا أن وصف التساؤل بالوقاحة لم يخفِ حساسية السؤال لروسيا، فالأرقام المتصاعدة للقتلى والجرحى ومن هم بين المنزلتين، تلقي بألف سؤال وسؤال على الأمن الروسي. وإذا كانت القضية الشيشانية عنوان هذه العملية أيضاً، كما كانت عنواناً للعديد من العمليات "الإرهابية" التي تعرضت لها روسيا مؤخراً فهي عودة دامية لقضية مر عليها ما يزيد على العقد، تستطيع الحكومة الروسية في بياناتها القادمة كما السابقة أن تدين "الإرهاب" وتتوعد "الإرهابيين"، لكن هل تستطيع أو بالأصح هل تريد أن تعالج أسباب "الإرهاب"؟ الإرهاب عنوان كبير يضم كل شيء وأي شيء. لا أنتقد الحكومة الروسية تحيزاً للخاطفين ولا أشكك في دموية الخاطفين تحيزاً للحكومة الروسية، فهذه قضية تساوى فيها الآن الجلاد والضحية، لكنني أتعجب من انعدام قيمة الإنسان في حساباتهما، ويضيع بينهما أول حقوق الإنسان، الحق في الحياة.
القضية الشيشانية قضية عادلة تماماً، شعب يسعى إلى تقرير مصيره، والحق في تقرير المصير تعترف به الأمم المتحدة. لكن وكما هو معروف فالمعادلات الدولية والتوازنات الإقليمية أكبر من عدالة القضية، وروسيا كان ومازال سجلها أسود في التعاطي مع القضية الشيشانية، فتقارير منظمة العفو الدولية الموثقة تتحدث عن انتهاكات روسية جسمية لحقوق الإنسان وللقانون الإنساني الدولي في حربها مع المقاتلين الشيشان. ولحساسية الملف الشيشاني كان التعاطي الروسي مع أزمة الرهائن الأطفال في مدرسة "بيسلان" مشيناً. لابد أن تلام الحكومة الروسية على طريقة تعاملها مع الأزمة في تصعيدها للازمة بدلا من احتوائها، التركيز على الخاطفين لا المختطَفين، فإذا كان الخاطفون مجموعة كائنات لا تمت للآدمية بصلة، فالحكومة الروسية يفترض بها أن تتعامل بحكمة أكبر بوجود هذا العدد الكبير من الرهائن. الرئيس "بوتين" بعد انتهاء الحفل الدامي خرج قائلا "لم نفهم تعقيد وخطر العملية، ولم نعلم كيف نرد بالطريقة المناسبة". تستطيع القنوات الدبلوماسية حضرة الرئيس أن تخلق أكثر من مخرج وأكثر من خيار لكن تصعيد العنف وبالتالي العنف المضاد أدخل روسيا دائرة لن تنتهي، فكيف لا تلام روسيا ولها سوابق معروفة في طرق تعاملها الدموية مع عمليات الاختطاف. فحادثة مسرح موسكو العام الماضي لازالت حاضرة في الأذهان، وقبلها انتهت أزمة احتجاز ألف رهينة من قبل مقاتلين شيشان بمبنى مستشفى مدينة "بوديانوفيسك" جنوب روسيا قرب الحدود مع الشيشان باقتحام قوات الأمن للمستشفى مما أسفر عن مقتل 100 شخص في عام 1995. لم تخلق الحكومة الروسية الانطباع دوماً أن عدد الضحايا لا يهم، المهم ألا ترضخ الحكومة لمطالب الخاطفين. هناك خلل لاشك خطير وقبل كل ذلك أتعجب من قيمة الإنسان، مجرد رقم ينتقل بين خانات الأموات والمصابين والناجون أو مجهولو المصير، مأساة كبرى.
على الأراضي القوقازية كان الخاطفون يلعبون "الروليت" الروسية مع الحكومة الروسية. تصفية حسابات، لعبة سياسية، فكانت النتيجة حفلة موت مجاني، إلا أن الضحايا كانوا أطفالاً في يومهم الدراسي الأول والأخير.