الشاشة التلفزيونية العربية تزدحم بجحافل "خبراء" و"مفكرين" و"علاّمات أفاضل" وغير ذلك مما يفترض أن لو كانت لدينا هذه الأعداد الغفيرة منهم لما كنا نرتع في لحظة هزيمتنا التاريخية الراهنة بكل انكسار. نحتاج إلى الكثير من التواضع في خلع الألقاب والأوصاف على غير مستحقيها على شاشات الفضائيات. وقد آن الأوان حقاً لمحاولة ترسيم قواعد مسلكية في التخاطب المتواضع على تلك الشاشات بكونها صاحبة تأثير لا ينكر. صحيح أن التخاطب، وليس الخطاب، ليس مسألة "استراتيجية مصيرية" لكنها ليست عديمة الأهمية أو التأثير في تصنيع الوعي الزائف أو تخليق أوهام تتحول بعد زمن إلى حقائق. فازدحام الشاشة بألقاب التفخيم والسخاء "السمج أحياناً" بإطلاق أوصاف الخبرة والفرادة والابداع يتضمن رسالة غير مباشرة لجمهور المتلقين كي ينصتوا بخشوع لما سُيقال على الشاشة، ومن دون جدال. وفي إطار مجتمعات تعج بالأمية الحرفية، ثم بالأمية الثقافية، تغدو المكانة التي يأخذها المتحدث على الشاشة والمزنر بأوصاف الخبرة والعظمة خطيرة وذات تأثير سيىء. إنه سوق عكاظ جديدة فيها خطباء يتحدثون وجمهور ساكت لا يشارك إلا بإبداء الإعجاب والاندهاش استلاباً بالمتحدث. الفرق الوحيد هو أن عكاظ القديمة كان فيها إبداع شعري، أما عكاظ اليوم ففيها كل شيء ما خلا الإبداع أياً كان. عكاظ اليوم تفيض بالحشو الزائد لتعويض انعدام الفكرة، أو للهروب من قول الحقيقة. من أبرز ما فيها ظواهر مسألة "جبن المثقف أو الخبير" الذي يكون على إدراك موضوعي أوسع بجوانب الحدث أو المعلومة لكنه لا يجرؤ على "البوح" بما يعتقده حقيقة لأن ذلك سوف يخالف الأوهام السائدة أو يغضب الجمهور المتدفىء على حرارة الوعي الزائف. من أبرز ما فيها البحث عن التصفيق الشعبوي عن طريق ترديد شعارات الحد الأقصى والأمة لا تستطيع تحقيق مطالب الحد الأدنى فيضيع ما تبقى من حقوق ومطالب في خضم مزاودات المزاودين.
كيف يحدث هذا، وكيف تُساهم الألقاب المضخمة على الشاشة في تزييف الوعي؟ يتم تعريف الكثيرين بأوصاف من مثل: الفيلسوف الكبير أو المفكر الكبير، أو الخبير الاستراتيجي، أو العلامة صاحب المشروع، أو سوى ذلك. إضافة بالطبع إلى التوصيفات المطولة الهشة والسخيفة، والتي لا تنتهي، المرافقة للمسؤولين الرسميين والحكام والرؤساء والملوك. وهنا يبرز التساؤل: ماذا يتبقى من هامش للخلاف في الرأي والجدل والمعارضة مع الأفكار التي سيقولها الفيلسوف العظيم أو المفكر الكبير أو العلامة الفريد بعد التلويح بعصا تلك الأوصاف القامعة مسبقاً لأي خلاف؟ ثم من هو الذي يتمتع بالأهلية الشاملة التي تخوله توزيع الألقاب يمنة ويسرة: فيعتبر هذا مفكراً، وهذا خبيراً، وهذا علامة؟ هل يجوز أن يتمتع مقدمو البرامج بكل هذه السلطة المعنوية في خلع الأوصاف وتسطير الألقاب التي يرون على من يريدون؟ أليس من حقنا التساؤل ثانية أو لو كان العدد الهائل من "الخبراء والمفكرين والمبدعين والعلامات والأبطال" الذي يُطل على المشاهدين العرب يتصف حقاً بالنعوت التي تخلع عليه لكنا في مقدمة الشعوب والحضارات في الوقت الراهن، ولما كنا نتخبط في الهزيمة والتخلف قياماً وقعوداً.
أي إنصات متمهل لتوصيف الكثير من الضيوف على الشاشة، خاصة البرامج ذات الضيف الواحد، وخاصة إذا رافقته الكاميرا تلاحق بالصورة الضيف وهو "يفكر ويبدع" من كل الزويا، يقودنا إلى أننا أمام أشباه آلهة. أناس يبدعون على طول الخط، عظام من دون لبس، ليسوا بشرا وليس عندهم أخطاء لا في ما يقدمونه من أفكار أو "ترهات"، ولا حتى في سلوكهم الحياتي مع أنفسهم والآخرين. آن لعملية شبه التأليه فعلاً أن تتوقف حتى نترك لعقل المتلقي أن يحاور المتحدث أو يخالفه، أو يتساءل عن جدارة ما يقول.
لكن، لا ينفك ما سبق عن ظاهرة أخطر وهي أن ثمة، في المجمل العام، "أبوية" بارزة في الأداء الذي يُشاهد على الشاشة، تحمل في طياتها الوصاية على الحقيقة وحراستها. الكل يزعم أنه "أبو الحقيقة" والمنافح عنها والحريص على "الأمة" فيما غيره يفرط بها يميناً وشمالاً. أبوية من المحطات نفسها، أبوية من قبل مقدمي البرامج، وأبوية من قبل المشاركين فيها، وإنتهاءً بأبوية من يقومون بالاتصال الهاتفي للمشاركة الحية في هذا البرنامج أو ذاك. ليس هناك تواضع (مع إستثناءات مهمة طبعاً) من قبل معظم من يتحدثون يتيح فرصة للرأي الآخر، ويقف عند بدهية بسيطة هي أن كل رأي هو مجرد رأي وليس الحقيقة المطلقة، إن كان هناك ما يمكن وصفه بذلك. أسوأ جانب من الأبوية والتضخيم وخلق الرموز التي لا وزن حقيقيا لها يُمكن أن يرى في عدد "الأبوات الإسلامية" التي خلقتها الشاشة التلفزيونية وهم على هوامش التيارات الإسلامية المعتدلة العريضة ولا قواعد لهم. ومثالاً على ذلك أليس من الحق التساؤل من هو أبو حمزة المصري، أو أبو قتادة الفلسطيني أو محمد بكري أو هاني السباعي من دون شاشات التلفزيون؟ لكن تظل الأبوية القيمية والفكرية والإستعلائية التي يساهم بها جزءا من بث الفضائيات تتجا