أؤمن بالديمقراطية إيماناً لا حدود له، وأن من حق الإنسان -أي إنسان- أن يعبر عن أسلوب حياته بالطريقة التي يريد، ما دام لا يؤذي الآخرين مادياً أو نفسياً. لذلك أتضايق كثيراً حين يتهم النقاد، المطربين من الجنسين بتهمة الفن الهابط المرتبطة بلغة الجسد، وهو ما نشاهده كثيراً هذه الأيام في المحطات الفضائية.· الكل يشاهد بشغف حتى لا نقول بشهوة، ثم بعد كل هذا التمتع بحركات الجسد والتأوهات، يخرج علينا بنقد الفن الهابط والاتهامات يميناً وشمالاً بتخريب الذوق العام، وتدمير الفن الراقي، ثم المقارنة السخيفة بأغاني أم كلثوم وعبدالحليم وفريد الأطرش، وينسى الجميع عدة حقائق، أولها، أن الحياة الدنيا التي نعيشها فيها السالب والموجب في الفن والسياسة والثقافة. ألا يوجد هناك مثقف السلطة والمثقف الملتزم؟ ألا يوجد السياسي الصالح والسياسي الطالح؟ ألا توجد الصحافة الصفراء؟ هذا هو واقع الحياة. وثانيها، أن الجيل الحالي والقادم للعالم كله، وليس فقط عالمنا العربي، هو جيل الشباب، وإذا لم يكن الشباب يرقص ويغني، فمن يقوم بذلك، أستاذ الجامعة مثلاً؟! وثالثها، أن الفن سلعة مثل أي سلعة أخرى، وأن مجال الأغاني والشعر سوق مفتوح للجميع. من حق كل من يعتقد أن لديه موهبة حتى وإن كانت في نظر الآخرين ليست كذلك، أن يعرضها أو يستعرضها.
من جهة أخرى يلاحظ انتشار هذا النوع من الفن في الكثير من الفضائيات بهدف جذب المشاهدين، وهي نظرية العرض والطلب. كل هذا لا يعني أنه لا توجد مشكلة، باعتقادي أن المشكلة تكمن في أننا كعرب نهمل الفن الجيد ولا نتحمل التزامه. كم من أمة العرب يتحمل السيمفونيات العالمية أو فن الباليه؟ كم سائحا عربيا تجده في المتاحف ودور الفن التي تعرض اللوحات الفنية؟ أو المسرحيات الجادة؟
الفن الهابط كما يسميه البعض فرض نفسه على المجتمع، مشكلته في أنه أصبح "الهبوط" في كل شيء أسلوب حياة نحتاجه لكي نعيش. وهذا هو الخطأ الذي يرقى إلى الخطيئة. وللأسف أن للمثقفين دورا في هذا التدهور الفني، لأنهم لا يتواجدون لتشجيع الفن الراقي. أذكر أن مهرجان القرين الثقافي في الكويت والذي أصبح علامة بارزة على المستوى الرسمي، لا يشهد حضوراً للمثقفين في ندواته ومعارضه الفنية ومسرحياته الجادة، بل ولاحظت أن المثقفين الذين يحضرون غالباً ما يكونون فرادى دون زوجاتهم، حتى ولو كن من المثقفات، فالتمنع صفة اجتماعية في مجتمعاتنا العربية. كذلك الأمر مع صانعي القرار من المسؤولين الذين يخططون للثقافة والفن الراقي، في كونهم لا يتواجدون إلا يوم الافتتاح لقص الشريط وشيء من التصفيق، فضلاً عن التقييد الديني والاجتماعي اللذين يكادان يخنقان العروض الفني.· فالفرق الفنية مقيدة بشروط في أزيائها، وكذلك النحاتون والرسامون. وفي مناخ تنعدم فيه القيم والمفاهيم الأخلاقية الاجتماعية حيث تسود ثقافة الطائفة والقبيلة وسيادة عدم الكفاءة وضعف العدالة الاجتماعية يصبح من الطبيعي التوجه إلى كل ما يسر النفس ويلهيها عن هذا الواقع المؤلم، وعلى ما يبدو أن الفن الهابط هو الدواء المؤقت الناجع والمسكن لكل هذه الآلام الاجتماعية.