متى يكون ما مضى قد مضى بالفعل؟ ومتى يتحرر الأبناء من ذنوب وآثام آبائهم؟ ومتى ستأتي لحظة التحرر من سجن الماضي، إلى تركيز الانتباه كله على المستقبل؟ فالتاريخ أينما كان، ليس سوى تعاقب لا ينتهي من الفظائع والسرقات والقهر، والعبودية وجرائم القتل الجماعي وغيرها من الأهوال. ويصرخ القلب مطالبا بتحقيق العدالة للملايين إثر الملايين من ضحايا تلك الأهوال. ولكن متى تحين اللحظة التي نقول فيها كفانا ما حدث؟
يذكر أنه وعلى إثر انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1990، كانت أوكرانيا قد بعثت بفاتورة لبنك إنجلترا، تطالب فيها بمبلغ 29 تريليون دولار. وبنت مطالبتها تلك، على وديعة ذهبية ضخمة حجمها برميل كامل من الذهب، أودعت لدى إدارة البنك، بغية تأمينها والحفاظ على سلامتها. وتعود تلك الواقعة إلى نحو 280 عاما خلت، وكان قد فعل ذلك الكولونيل بافيل بولوبوتوك، الذي كان قائدا عسكريا أوكرانيا وقتئذ. إلا أنه لم يسترد أمواله بسبب موته وراء قضبان السجن.
بيد أن 280 عاما، لا تعني شيئا مقابل ما يعكر صفو المياه في كوريا الجنوبية اليوم. فهناك ينهمك الرئيس الحالي، روه مو هيون، فيما تنشغل به العناوين الرئيسية للصحف ومختلف وسائل الإعلام، أي نزاعه مع الصين، حول لأي البلدين تؤول مملكة كوجوريو التي زالت قبل نحو من 1300 عام خلت؟ والطريف أن ذلك النزاع عد من بين " القضايا الملحة" بين البلدين! أما بالنسبة لألمانيا، فقد مضى زمن أقرب من ذلك بكثير، على اعتذارها رسميا لدولة ناميبيا الأفريقية على إقدام الأولى على قتل نحو من 56 ألفا من أهالي قبيلة هيريرو الناميبية. وقالت ألمانيا في صيغة الاعتذار تلك، إنها تتحمل المسؤولية الأخلاقية والجرم الذي ارتكبه الألمان في ذلك التاريخ. والمقصود بهذا التاريخ هو الفترة الممتدة بين الأعوام 1904-1907.
ثم هناك حادثة ذبح وقتل المدنيين الصينيين على يد القوات اليابانية في منطقة نانكينج الصينية عام 1937. ومن يومها إلى الآن، لا تزال الصين تطالب جارتها اليابانية بتقديم اعتذار رسمي عما حدث. ومن جانبها خطت اليابان خطوة أقرب فأقرب كل مرة من تقديم اعتذار كهذا، من شأنه إرضاء الصين، إلا أنه لم يحدث مطلقا.
وضمن سيرة الاعتذارات هذه، فقد قبل الأب بارتولوميو، البطريرك الأرثوذكسي لمدينة اسطنبول، في وقت مبكر من هذا العام، اعتذارا من يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان، عن عمليات السلب والنهب التي تعرضت لها مدينة القسطنطينية التاريخية القديمة، من قبل مقاتلي الحملات الصليبية، وهي الأحداث التي وقعت قبل نحو 1000 عام، في سنة 1204 ميلادية. وأعرب بابا الفاتيكان عن شعوره بالأسف العميق لما حدث.
لكن وبالنسبة للبعض، فإن مثل هذه الاعتذارات المتأخرة، لا تكفي. لأن هؤلاء يطالبون باسترداد الأراضي المسلوبة. ومثل هذه الحركات الوحدوية، التي تطالب باسترداد الأراضي والحقوق المسلوبة لأصحابها الأصليين، تنتشر من الهند وإندونيسيا، وحتى إسبانيا وكاليفورنيا. ولهؤلاء مطلب وحيد وأساسي هو استعادة الأرض.
فعلى إثر إقدام بعض الإرهابيين الإسلاميين على تنفيذ تفجيرات القطارات الإسبانية، في العاصمة مدريد- وهي الانفجارات التي بلغ عدد ضحاياها ما يقارب المئتي ضحية- عثر على شريط فيديو هناك، يشير إلى منطقة الجنوب الإسباني، باسم "الأندلس"، وهو الاسم الذي لم يعد يستخدمه أحد، منذ أن تم إجلاء العرب واليهود من تلك المنطقة في عام 1429. اليوم وبعد مضي 512 عاما على ذلك التاريخ الغابر، يحلم إرهابيو القرن الحادي والعشرين، باستعادة الأندلس القديم، ووضعه تحت سيطرة إسلامية! في المنحى ذاته، ولكن الأمر يتعلق بنزاع داخل الولايات المتحدة الأميركية هذه المرة، يستخدم الراديكاليون الأميركيون المنحدرون من أصول مكسيكية، مفردة "أزلتان" التي تعني الغابر والقديم، للمطالبة باسترداد منطقة قديمة في ولاية كاليفورنيا، كانت من قبل تنتمي لأصول لاتينية، ويتمسكون باستعادتها إلى المكسيك المعاصرة. يجدر بالذكر، أن المنطقة المعنية، لم تعد جزءا من الأراضي المكسيكية، منذ عام 1848.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى التعويضات. ولعل أفظع التعويضات التي شهدها التاريخ المعاصر، هي تلك التي فرضتها معاهدة فرساي على ألمانيا المدحورة، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. فقد دمرت تلك التعويضات الاقتصاد الألماني تماما، وأشعلت في المواطنين مشاعر غضب قومي عام، هي التي مهدت الطريق أمام ذلك العريف السابق في الجيش، المدعو أدولف هتلر، وأعانته على تقلد زمام السلطة الألمانية لاحقا. وكانت إحدى نتائج الحكم النازي لألمانيا، تعذيب واسترقاق، بل وقتل حوالي 6 ملايين من اليهود. لكن وبعد مضي نصف قرن على تلك الأحداث، طالب المؤتمر اليهودي العالمي، السلطات السويسرية، بتعويض الناجين من محرقة "الهولوكوست" وأسرهم، عن ممتلكات وأصول، كان النازيون قد صادروها منهم، وأودعوها في البنوك السويسرية.
وداخل الولايات المتحدة الأميركية ثانية، كانت قد تنامت حملة، يقودها المنحدرون م