لا يبدو العالم في نظر مرشح ولاية ميتشجان، إلا بانقسامه الحاد بين الخير والشر، والأبيض والأسود. إذ ليس ثمة شيء يتوسط بين هذه الثنائيات مطلقاً. ولذا فهو يزدري اللون الرمادي، ويكره التعقيدات وتغير الأحوال والظروف، وحقائق الحياة الموضوعية غير المريحة أو الملائمة. وفي معرض تزيينه لصورته وإعطائها صفة ذلك النبيل، صاحب القوة التحويلية وحامل ألوية الحرية خارج الحدود، صرح "بوش" قائلا: لقد كان هناك المتوجسون والمتشككون بيننا دائماً، وفي كل مرة سعت فيها الولايات المتحدة الأميركية لاستخدام قوتها من أجل حفز الديمقراطية والحرية، في بقعة ما من العالم. ففي عام 1946، أي بعد ستة أشهر من سقوط العاصمة الألمانية برلين، في يد قوات الحلفاء، كتب صحفي في صحيفة نيويورك تايمز قائلا: إن ألمانيا دولة منكوبة وغارقة في لجة أزمة اقتصادية وسياسية وأخلاقية حادة ومزمنة. وفي المقابل فإن الذعر قد دب في أوصال العواصم الأوروبية المجاورة. فما من قيادة عامة لأي من قيادات القوات الأوروبية، إلا وتلقى فيها المسؤولين والقادة المتحفزين، وهم يبذلون أقصى ما في وسعهم، استعداداً لما يمكن أن تسفر عنه تداعيات سياسات الاحتلال القائم في ألمانيا، والتي يعترفون بفشلها وخيبتها. ولا يفوت على "بوش" أن يعلق في نهاية ذلك المقتطف، بقوله: ربما كان هذا الصحفي، لا يزال يعيش بيننا ولا يزال يكتب المزيد من مثل هذه المقالات التحليلية المثبطة.
لكنني أقول للرئيس "بوش"، إن ذلك الصحفي- أو الصحفية بالأحرى- لم تعد بيننا الآن، لكونها فارقت الحياة منذ عام 1954. فقد كانت "آن إوهير ماكروميك"، من صحفيات "نيويورك تايمز" الرائدات في مهنة المراسلة الصحفية من خارج الحدود. وقد استطاعت من خلال عملها المهني وتفانيها فيه، أن تغطي معظم الشخصيات التي تمثل "محور الشر" بالفعل. فقد أجرت حوارات ومقابلات صحفية مع كل من "أدولف هتلر"، و"موسوليني"، و"جوزيف ستالين"، و"باتون". علاوة على كل ذلك، فهي بالكاد يمكن أن تنطبق عليها أوصاف اليسارية أو الانهزامية التي يحلو للرئيس "بوش" ترديدها والسخرية منها. وفي عام 1937 أصبحت تلك الصحفية أول امرأة تنال جائزة "بوليتزر" عن الكتابة الصحفية، كما كانت أول امرأة تنضم إلى مجلس تحرير صحيفة "نيويورك تايمز".
لابد من القول إن الرئيس "بوش"، قد ألحق تشويهاً ببعثة تلك الصحفية إلى ألمانيا. فقد كانت الأزمة المعنوية، التي وصفتها تؤول إلى الجانبين الفرنسي والبريطاني من قوات الحلفاء الموجودة هناك. وقالت الصحفية إن أداء الأميركيين كان أفضل حالا من غيرهم من قوات الحلفاء، لكونهم يعملون وفق سياسة تستهدف تشجيع وحفز الحكم الذاتي في ألمانيا المحتلة. وأعربت عن رغبتها في أن تبذل الولايات المتحدة المزيد من الجهد، وأن ترسل المزيد من القوات، وتبقى هناك حتى اكتمال مهمة إعادة بناء ألمانيا، لا أن تنسحب وتغادر الميدان، قبل اكتمال مهمتها ومسؤوليتها فيه. يشار هنا إلى أن الحملة الإعلامية التي قادها الرئيس "بوش" أثناء حملته الانتخابية، ومحاولته حرق شخصية منافسه "كيري"، هي شبيهة إلى حد كبير بتلك الحملة التي قادها ضد صدام حسين. أقصد هنا المنهج الانتقائي تجاه ما يريده من حقائق، والأسلوب الانتقائي كذلك في الترويج للمزاعم والادعاءات، إضافة إلى السياقات والنصوص المغلفة بالنوايا والأهواء الشخصية والنزوات. وقد جاء مؤتمر الحزب الجمهوري الأخير، قمة هذا السلوك الانتقائي والنزعة التلفيقية.
وقد تجاهل الرئيس ونائبه كل ما أصبح اليوم حقيقة دامغة لا جدال حولها، وأوغلا في الزعم والادعاء بوجود رابطة قوية بين صدام حسين وهجمات الحادي عشر من سبتمبر. كما تجاهلا حقيقة أنه لا علاقة لصدام مطلقاً بأية مهددات للأمن القومي الأميركي. فبعد أن أنهى "تشيني" حديثه عن أولئك "الإرهابيين" المهووسين الذين خلفوا وراء عملياتهم الدموية تلك، نحواً من 3 آلاف قتيل، ذهب المتحدث للتباهي والتفاخر بالقول: أما في العراق، فلقد تصدينا لخطر مستمر ومتصاعد، وتمكنا من الإطاحة مرة واحدة وإلى الأبد بنظام صدام حسين. وعلى الرغم من أن مؤتمر الحزب، قد رفع تلك اللحظات التي قضاها "بوش" في ساحة مجزرة برجي مركز التجارة العالمية، إلى مصاف الخرافة والأسطورة، إلا أن الحقيقة العارية الباقية في ذلك المؤتمر، أنه لم يورد أي ذكر لأسامة بن لادن، الذي كان قد تعهد بإلقاء القبض عليه "بوش" لحظة انفعاله واستجابته المباشرة لتلك الهجمات. كما لم يعترف المتحدثون في المؤتمر بأي من تلك الحلقات "الإرهابية" الدموية الناشطة في كل من أفغانستان والعراق. ولم يأت المؤتمر على ذكر عودة ظهور ونشاط حركة "طالبان"، التي وجدت لها ملاذا آمنا، في أراضي حليفتنا باكستان.
بدلا من ذلك، واصل "تشيني"- هذا الذي تنطبق عليه صفة "ملك الهراء" تباهيه بالتعليق على إنجازات الإدارة في أفغانستان بقوله: وفي أفغانستان، فقد تمكنا من دحر وطرد حركة "طالبان" من سدة الحكم. ولسوء الحظ، وبعد لحظات فحسب من بدء انعقاد مؤتمر الح