يحلو لمسؤولي البيت الأبيض من مساعدي الرئيس، وصفه بأنه رجل التحولات. وعلى رغم ما في هذا الوصف من مغالاة ومبالغة، إلا أنه وفيما لو فاز في الانتخابات الحالية بدورة رئاسية جديدة، وفعل ما وعد به، فإنه ربما ينطبق عليه ذلك الوصف. أما على صعيد الحزب الجمهوري نفسه، فقد مضى "بوش" شوطاً بعيداً في تحويله. فقد كان الحزب الجمهوري موحداً فكرياً، حول فكرة أن الحكومة بحد ذاتها تمثل مشكلة، وأنه لابد من الحد منها وتقليصها إلى أقصى حد ممكن. ولكن "بوش" أكد في الخطاب الذي ألقاه أمام المؤتمر القومي للحزب الجمهوري، خلاف ذلك، بقوله إن الحكومة، أداة عمل إيجابية. ومضى معلقاً، إن على الحكومة أن تقف إلى جانب المواطنين. ثم استطرد في استعراض برنامج وأجندة عمل جد متفرقة وواسعة. غير أن معظم المقترحات التي تقدم بها تصب إما في خانة المشروعات الصغيرة أو متوسطة الحجم. بل ذهبت قنوات الإعلام إلى وصفها بأنه ليس ثمة جديد في معظمها. إلا أن الحقيقة هي أن تلك المقترحات في مجملها، تعني شيئاً ما في النهاية. فقد وعد "بوش" ببناء المراكز الصحية الاجتماعية، وبتوسيع الجيش الأميركي، كما وعد بزيادة الأموال المخصصة لمنح الضمان الاجتماعي، وإنشاء الحسابات الخاصة بإعادة التأهيل المهني، ومنح تسهيلات ضريبية للسيارات التي تستخدم الوقود المهجن. ووعد الأسر ضعيفة الدخل، بحسابات توفير تتعلق بالضمان الصحي لها. وضمن مشروعاته، وعد "بوش" بتخصيص مبلغ 40 مليار دولار للمحافظة على بيئة المناطق المبتلة... إلى آخر الوعود الانتخابية.
ومما لا شك فيه أن العقلية التي عبر عنها "بوش" في خطابه الانتخابي، إنما هي عقلية ناشط يرمي إلى تغيير الأوضاع إجمالا. وكما قالت "كارين هيوز" في قناة
"PBS" ليلة الخميس نفسها، التي ألقى فيها "بوش" خطابه المذكور: ليس في هذا الخطاب، تلك العقلية التقليدية القديمة التي تقول مثلا:"دعنا نستغني عن وزارة التعليم، أو فلنغلق الحكومة نفسها، على نحو ما كان يتردد في أفكار قدامى المحافظين التقليديين سابقا". ومع أن خطاب الرئيس "بوش" لم يشر إلى المقترحات الكبرى التي من شأنها صناعة التاريخ وكتابته إلا لماماً، فإن ذلك لم يثنه عن إدراك التحدي الإصلاحي الأهم في مسار أداء الحكومة الأميركية. وتأكيدا لهذا الاستنتاج نورد على لسان الرئيس "بوش" نفسه ما قاله في هذا الصدد:"إن كثيراً من معظم ما يمثل نظمنا الأساسية، مثل قانون الضرائب، والضمان الصحي، والخطط المعاشية، ونظم تدريب العاملين، قد شرع لعالم يناسبه الأمس، وليس عالم الغد. وإن علينا أن نعمل على تغيير هذه النظم البالية". وفيما قاله "بوش" في هذا الاتجاه الذي يقلب عقلية المحافظين التقليدية القديمة، إعلانه عن أن على الحكومة أن تتحرك بكامل طاقتها وإمكاناتها، باتجاه مساعدة المواطنين على الحصول على المهارات اللازمة، التي تفتح أمامهم فرص عمل جديدة. إلى ذلك جاء في حديث "بوش": إن على الحكومة أن تساعد الناس على تحسين ظروف حياتهم، وليس أن تبقي على استمرار تلك الحياة. وفي هذا القول الأخير، جوهر ما تنطوي عليه فلسفة الحكم كلها.
بيد أن تصريحات "بوش" هذه، قوبلت بالكثير من الريبة والشك، من قبل المجتمع الصحفي والإعلامي. وكانت الأسئلة المشتركة بينهم: من أين له أن يمول كل هذه المشروعات؟ ولمَ لم ينفذ الكثير منها في فترة رئاسته الأولى؟ ولماذا يبدو الرئيس بكل هذا الغموض والتشويش حول أفكار ومشروعات كبيرة بهذا الحجم؟ وهل سيضحي بكل ما قاله، على مذبح خفض الضرائب الذي ينوي إقامته؟ ولكن مما لا شك فيه أن الرئيس لن يكون راغباً في إطلاعنا على آلام وأوجاع قرارات الإنفاق العام، ونحن في ذروة العملية الانتخابية هذه. كما أنه لا يريد أن يطلعنا في هذا الوقت بالذات، على من سيقع الضرر الناجم عن إجراءات تبسيط الضرائب.
ولكن هناك حقيقة أخرى نلخصها في أنه سوف يكون من الغرابة بمكان، ألا تكون للرئيس "بوش" أجندة داخلية واسعة، في حال فوزه بدورة رئاسية أخرى. فالمعروف عن أزمنة الحروب تاريخياً، أنها أزمنة للإصلاحات، لكون الحروب، تغير طريقة ونمط تفكير الناس. وما تفعله مثل هذه الأزمنة، هو أنها تعطي للإصلاحات هذه صفة وطابع الإلحاح والآنية. وفي وسعنا أن نلحظ مثل هذا الشعور على الطريقة التي يفكر بها "بوش" نفسه. فبالمقارنة بين دخوله حلبة التنافس الانتخابي على الرئاسة لأول مرة في عام 2000، كان كمن يتنافس على منصب حاكم رئيسي لإحدى الولايات. أما اليوم، فنراه يفكر بطريقة الرؤساء، ونلحظ أن أجندته الداخلية قد اتسعت ونمت، بحيث تتناسب وسعة سياساته الخارجية.
ومن البديهي أنه يتعين على الإدارة اتخاذ جملة من القرارات والسياسية الرئيسية. ربما يكون أولها، أن تحدد أولوياتها بين هذا العدد الكبير من المقترحات والمشروعات التي تقدم بها الرئيس "بوش". ولعل أول هذه القرارات والأولويات، تبسيط النظام الضريبي، لأن في معالجة مشكلة قانون الضرائب، علاجاً ناجعاً لكل التجاوزات والتشوهات التي طرأت على القطاع