من عاش في بيروت يومي الخميس والجمعة الماضيين يعرف أن المرارة كانت تساكن غصباً الفرح المزيف. وأن الطبيعة لبدتها غيوم سوداء وانحبس ضغط الهواء كما نفوس السكان، إلى أن أغلقت الستارة على مسرحية التمديد المميتة، والفيلم الفرنسي - الأميركي - الدولي الطويل ولعلعت في الأجواء البيروتية وفي مسقط رأس الرئيس الممدد لهامته أضواء وأصوات المفرقعات النارية، ليكون تعديل الدستور والتصويت بالموافقة عليه بالإكراه "الاستخباراتي"، مثل كل المعالم السياحية... بالصوت والصورة.
كان فعلا استحقاقاً. أول أمس استحقينا كلبنانيين، النواب الذين انتخبناهم قبل سنوات. كان الأمل الوحيد لوقف التدخل الأجنبي (السوري، الفرنسي، الأميركي، الدولي، الإسرائيلي) أن يصوت النواب على قرار تعديل الدستور بما يمليه عليهم الضمير. وبما أننا انتخبنا العديد من النواب من غير مراجعة ضمائرنا فرحين بالمئة دولار التي تحولت من كثرة الطلب إلى 60 دولاراً للرأس، فـ"صحتين" للذي "امتد" بـ96 من رافعي الأيدي المستعدين لألف خدمة مثل هذه في سبيل "الحفاظ" على الوطن الذي كان دائماً وطناً لا يحمل أهم الصفات، ألا وهي السيادة والأمان. مرة أخرى خسرنا مرقد العنزة ... مرة أخرى نردد: كما نحن يولى علينا.
والآن، وقد دخلنا مرحلة جديدة من ملحمة هذا البلد، نسأل إلى أين؟
غداً أو بعد غد عندما تقرر إسرائيل أو أميركا "تأديب" سوريا، أين ستضربها؟ الجواب: في لبنان طبعاً.
بعد هدوء العاصفة وعندما ستحاول الحكومة اللبنانية الجديدة التي ستولد خلال أسابيع فتح ملفات اقتصادية مثل باريس 2 أو 3 أو 4، وملف القروض (40 مليار دولار) وإعادة جدولتها، وملف المساعدات الخاصة لإعادة الإعمار، وملف الاستثمارات الدولية والخليجية في لبنان ألن يقف قرار الأمم المتحدة 1559، حجر عثرة في الطريق؟. وعندما ستضرب إسرائيل أو ترتكب أية حماقة مميتة في الأراضي اللبنانية ويذهب لبنان للشكوى من موقع قوة، ماذا سيكون الرد؟.
إن عدم قدرة الرئيس إميل لحود خلال سنوات حكمه الأولى على جمع اللبنانيين في بوتقة الوحدة الوطنية الثابتة والأكيدة والجاهزة للوقوف في وجه أي تدخل إقليمي أودولي من أسباب الورطة التي دخل لبنان فيها قبل أيام. كان بوسع "التريو" لحود والحريري وبري الاعتماد على الذات اللبنانية وعلى النفس ومحبة لبنان وكنوز الأمل المدفونة فيه (أبناؤه)، المضغوط عليهم حتى الموت أو الطرد والهجرة لإعادة لحمة البشر بين بعضهم بعضاً بدل الركض إلى "بابا بشار" و"بابا شيراك" و"وماما أميركا" كلما "دق الكوز بالجرة" كما يقول المثل اللبناني.
هناك عدد من الأسئلة لابد من الإجابة عليها بعد كف التمديد الأخير. ولا مجال للإجابة كذباً أو مواربة.
هل لبنان بلد ديمقراطي؟ هل للبنان حق السيادة على ناسه وترابه؟ هل نفذ اتفاق الطائف الذي يعتبر الحد الأدنى للتوافق بين اللبنانيين؟ إلى متى سيبقى لبنان رهين الجوارين؟ إلى متى سيبقى لبنان عبداً لطوائفه بدل أن تكون طوائفه حديقة للتعدد الفكري والإيماني؟ متى تتفوق روح المواطن على روح التاجر؟ متى يشعر ابن الأشرفية (من ضواحي بيروت) بالوجع عندما يصاب لبناني في الناقورة (جنوب لبنان) ومتى يشعر ابن زفتة (الجنوب اللبناني) أنه ليس غريباً في بكفيا (جبل لبنان)؟. متى نوقن نحن المهاجرون من لبنان ونحن له... أنه لنا؟.