لقد قوبلت تلك الاتفاقية التي أبرمت بين آية الله علي السيستاني، ومقتدى الصدر الذي تتبعه مليشيا "جيش المهدي"، والمسؤول عن تنسيق المواجهة المسلحة التي شهدتها مدينة النجف المقدسة، بالكثير من مشاعر الارتياح، من قبل كل من مواطني مدينة النجف، والحكومة العراقية المؤقتة بقيادة رئيس وزرائها إياد علاوي، وكذلك إدارة بوش التي كانت تستعد لحظتها لعقد المؤتمر القومي الجمهوري بمدينة نيويورك. وفيما لو تواصلت المواجهات والمعارك في مدينة النجف، أثناء انعقاد المؤتمر الجمهوري، فإن ذلك سيكون حدثاً محرجاً للإدارة، وهي تتفاخر بما حققته من نجاح في حربها على الإرهاب في العراق. لكن الهدنة التي جرت في مدينة النجف مؤخراً، لابد من أن ينظر إليها على أنها حدث تكتيكي عارض. فما من خيار آخر أمام إدارة بوش، عدا مساندة الاتفاق الذي تم، على رغم ما بدا فيه في عيون الكثيرين في العراق، على أنه انتصار سياسي لمقتدى الصدر، سيما وأن الاتفاق لم يقض بحل مليشياته، بينما بقي هو نفسه، حراً طليقاً لمزاولة نشاطه السياسي، على رغم ما يحيط نشاطاً كهذا من شكوك.
وما تعرضت له مدينة النجف من حصار، مثلما كان حال حصار مدينة الفلوجة من قبل، إنما يبين المأزق الذي تزج فيه إدارة بوش بنفسها في العراق. فعلى رغم القوة العسكرية الكبيرة المؤلفة من قوات الجيش الأميركي وقوات المارينز هناك، إلا أن الإدارة لا تزال تعمل وفقاً لرغبات ووعود، حكومة عراقية مؤقتة ضعيفة ومنقسمة على نفسها، لا يزال عليها إثبات قدرتها على توحيد الإرادة العراقية، وبسط الأمن بما يكفي، لإجراء انتخابات حرة ونزيهة في غضون الأشهر المقبلة. وللمزيد من الوضوح، فإن أي نجاح يمكن أن تحرزه إدارة بوش لسياساتها في العراق- بل لسياساتها الشرق أوسطية عامة- إنما يعتمد إلى حد كبير، على قدرة حكومة إياد علاوي على النجاح أولا.
وعلى المدى القريب، فإن الأمل الوحيد الذي يتعلق به البيت الأبيض، هو أن تظل الأوضاع في العراق في مستوى كاف من الاستقرار، بحيث لا تحسب خصماً على حساب حملة إعادة انتخاب الرئيس بوش.
لكن وفيما لو فاز بوش بالانتخابات في شهر نوفمبر المقبل، فإنه سيتعين عليه الأخذ باستراتيجية بعيدة المدى للعراق، تضع في اعتبارها ما تواجهه الولايات المتحدة من استنزاف عسكري ومالي، جراء تلك الحرب، إلى جانب الأزمة المحتمل نشوبها مع إيران، بسبب برامجها الخاصة بالأسلحة النووية. وحتى قبل إجراء المعركة الانتخابية الحاسمة في نوفمبر المقبل، فلابد للرئيس بوش أن يضع حساباً لتلك الأخبار السيئة عن احتمال ارتفاع عدد القتلى من الجنود الأميركيين في العراق، إلى 1000 جندي- إذ يشير الرقم الحالي إلى 977 قتيلا حتى الأول من سبتمبر الجاري-. فإذا ما أضيف هذا الرقم الكبير، إلى الذين تعرضوا لإصابات خطيرة في الحرب نفسها- وهؤلاء عددهم 6000- إلى جانب العدد الكبير من القتلى والمصابين العراقيين، فإن ذلك كله سيخلف تركة مأساوية لما زيَّنه المحافظون الجدد، من تصور ساذج للحرب على أنها لن تكون سوى "رقصة رشيقة خفيفة"!
ومن العوامل الأخرى المثيرة للقلق أيضاً، أن يتعرض رئيس الوزراء العراقي المؤقت إياد علاوي، الذي أصبح شخصية لا غنى عنها بالنسبة لإدارة بوش للاغتيال، وخاصة أنه لا يوجد بين القادة الشيعة، من يسد خانته. فآية الله العظمى السيستاني، ليس قادراً على الحكم، علاوة على زهده تجاه أية سلطة أو زعامة سياسية. وإلى ذلك كله فإن الهجمات المسلحة، وعمليات التفجير التي زعم أنها صادرة عن بقايا وجيوب البعثيين، باتت تمثل خطراً أشد وأوسع مدى، مما كان متوقعاً. ويلاحظ أن الكثيرين، بمن فيهم الذين تنفسوا الصعداء برحيل نظام صدام حسين، يبدون قلقاً من أن يجري تهميشهم، فيما لو تولت مقاليد الحكم في البلاد، أغلبية شيعية، يتسنى لها فرض سيادتها على المسرح السياسي العراقي برمته. ويذكر مثل هذا الخوف الذي يعتري العراقيين، بتجربة هيمنة الطائفة المارونية على السلطة في لبنان لعدة عقود، على رغم كونها أقلية سكانية.
وختاماً يمكن القول، إن العراق لا يزال يمثل خطراً كبيراً على حملة بوش الانتخابية، وهي آخذة باتجاه مراحلها النهائية الحاسمة. فقد حظي بوش بتأييد واسع في مؤتمر الحزب الجمهوري الذي عقد مؤخراً، إلا أنه ليس بمنجاة بعد، من التحدي والهزيمة.