يبدو أن لعبة الكذب التي روجت لها الإدارة الأميركية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر بخصوص موضوع الإرهاب والحرب على العراق، قد بدأت تدريجياً تنكشف بصورة واضحة أكبر مما كانت عليه من قبل، خاصة مع اقتراب سخونة موعد الانتخابات الأميركية. وقد اعترف جورج بوش نفسه بهذه الحقيقة وللمرة الأولى عندما قال لصحيفة نيويورك تايمز إنه وقع في خطأ في الحسابات لما ستكون عليه الأوضاع في العراق بعد الحرب. وبذلك تكون كل الأدلة المضللة والتبريرات والأقنعة التي حاولت الإدارة الأميركية الحالية أن تندس وتختفي خلفها قد سقطت تماماً، وأصبحت هذه الإدارة اليوم عارية أمام الرأي العام الأميركي والعالمي بخصوص هذا الموضوع. وهذا ما جعل جورج بوش الغارق في مستنقع العراق يستعطف الناخبين الأميركيين إلى حد البكاء، ألا يحرمونه من فترة رئاسية ثانية حتى ولو اختلفوا معه حول حقيقة التضليل والكذب فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب.
إن التحليل الدقيق لحالة الاعتراف بالخطأ في منظومة استراتيجية الحرب على العراق تكشف لنا بوضوح ضخامة العمق الإمبريالي الذي وصلت إليه هذه الإدارة في قراراتها "الاندفاعية" نحو السيطرة على العالم على الرغم من خطورة هذه الاستراتيجية على علاقة أميركا بالعالم، ومحاولات الكثير من الساسة ورؤساء الدول والمفكرين والكتاب ومجموعة الفائزين بجائزة نوبل وأعداد من الدبلوماسيين السابقين ومسؤولي الاستخبارات والعسكريين السابقين وبعض القادة من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي وقف هذا الاندفاع الإمبريالي. لكن يبدو أن عقلية الغطرسة الإمبريالية ومنطق الغرور السياسي وشهوة السلطة والسيطرة على النفط هي التي تغلبت في النهاية على كل تلك الأصوات المضادة لهذا الاندفاع.
ومن المهم هنا أن نعرف جيداً أن استراتيجية السيطرة والاستعمار لم تكن قادرة على التحرك في ظل إشكالية النقد المضاد لهذه السياسة الاندفاعية إلا بعد أن استخدمت هذه الإدارة "ثقافة الكذب والتضليل والفبركة"، وأنشأت لهذا الغرض مؤسسة في "البنتاجون" (وزارة الدفاع الأميركية) تختص بصناعة التضليل الإعلامي تحت اسم "مكتب التأثير الاستراتيجي" حيث ركز هذا المكتب على أمرين:
1- إعادة صياغة الرأي العام العالمي والتأثير في صناعة القرار في كافة الدول الحليفة وغير الحليفة.
2- العمل على غسل العقول وتغيير الآراء والتوجهات والولاءات مع التركيز على دول الشرق الأوسط ثم آسيا وأوروبا الغربية.
وقد اعترف توماس تيميس المسؤول المساعد عن عمليات المكتب أن المكتب استخدم كل الوسائل بهدف التأثير على الرأي العام، مثل زرع وتمرير المواد الإعلامية والإخبارية من خلال المنظمات الإعلامية الأجنبية التي لا ترتبط بالبنتاجون، ومارس أنواع التضليل الإعلامي والأنشطة السرية والهجوم على شبكات الكمبيوتر والحملات النفسية الخداعة وفبركة التحذيرات حول موضوع الإرهاب بهدف تمرير القرارات الخاصة بالحرب على العراق والحرب على الإرهاب. ووصلت حالة الكذب إلى درجة أن قال الكاتب الأميركي بول كروجمان: إنه لم يشهد التاريخ رئيساً دائم الكذب مثل الرئيس الأميركي جورج بوش. بل إن رون ريجان ابن الرئيس الأميركي رونالد ريجان وصف هذه الحالة بصورة أوضح وأدق في مقاله الذي نشرته مجلة "سكوير" عدد سبتمبر عندما قال: إنه لا يمكن لأحد أن يثق في إدارة بوش. إن جورج بوش وإدارته بلغت حالة الكذب العادي عندهم درجة مذهلة، وهم لا يترددون في الخوض في أي عدد من الأكاذيب الصغيرة، ووصل بهم الحد إلى تجسيد الكذب ذاته. إن بوش وإدارته عبارة عن كذبة وقد بدأ الناس في خاتمة المطاف يمسكون بهم متلبسين بالجرم المشهود. ومن أكثر الأمثلة الفاضحة التي تؤكد حالة الكذب والتحريف والتلفيق التي لا تجرؤ الإدارة الحالية على نكرانها حربنا المزعومة على الإرهاب وغزونا للعراق.
إن أخطر ما فعلته استراتيجية الاندفاع نحو السيطرة على العالم بواسطة التضليل والفبركة الخادعة أنها كانت على حساب الإسلام وتدمير العرب والمسلمين وخاصة أنها انطلقت من أيديولوجية كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، والتي لخصها قائلاً: كان لنا عدوان: الأول العدو الأحمر وهو الاتحاد السوفييتي وقد تم تدميره، وبقي العدو الأسود والأخطر وهو الإسلام.