بالنسبة للجيل الحالي من الجنود الأميركيين، تتحول قضية سجن "أبوغريب" بسرعة إلى ما شكّلته مذبحة "ماي لاي" بالنسبة إلى الجيل الذي قاتل في فيتنام- حيث تحولت نوبة من سوء السلوك المرعب إلى أزمة أخلاقية كاملة من خلال سوء المعالجة اللاحق.
وفي أوجه التشابه بين الحدثين دروس. وكذلك شأن الاختلافات بينهما. ذلك أن تلك الاختلافات توحي بما لابد من فعله بغية منع الحالة الراهنة من التسبب بمزيد من تآكل استقامة القوات المسلحة.
أوجه الشبه بين قضية "أبوغريب" و"ماي لاي" تبدأ بالحوادث نفسها. ففي كلتا الحالتين، قامت وحدات- مجموعات من الجنود الأميركيين وليس أفراداً مشاكسين- ليس فقط بخرق القانون، بل وبانتهاك المعايير الأساسية للسلوك الإنساني. ففي قرية "ماي لاي" في عام 1968، ذبح المجندون المئات من المدنيين الفيتناميين. وفي عام 2003، وفي سجن "أبوغريب" وربما في مكان آخر، قام الجنود وعلى نحو منظم بإذلال وإساءة معاملة وحتى بتعذيب المحتجزين في سجن أميركي.
ولفترة معينة من الزمن، بقيت سلسلة الأحداث مخفية، باعتبار أن الضباط المخضرمين حوّلوا أبصارهم ولم يقولوا الحقيقة أو سعوا على نحو فاعل إلى التعتيم على أية معرفة بما حدث. وفي حالة سجن "أبوغريب"، رفض مجند من رتبة منخفضة أن يكون مشاركاً في ارتكاب الاعتداءات.
وأثارت كل واحدة من الحادثتين، مع تفجرها في العلن، ردوداً متماثلة من صفوف أصحاب الرتب العليا في "البنتاغون". فأولاً، كان الرد بالإنكار ثم بالسيطرة على الأضرار. وفي تحويل الأنظار عن قضية "أبوغريب" باعتبارها عملاً ارتكبته قلة من "التفاحات الفاسدة"، تصرف مسؤولو "البنتاغون" في عام 2004 بطريقة تشبه كثيراً جداً تصرف أسلافهم في عام 1969. وباعتبار أنه بدأ على الفور البحث عن كباش محرقة يمكن التصرف بهم، يكون الملازم "ويليام كالي" اليوم سلف المجندة "ليندي إنغلاند" التي تحمل رتبة عريف درجة أولى.
لكن هناك ناحية واحدة وذات أهمية حاسمة تختلف فيها القصتان. ذلك أن التحقيقات الرسمية الكثيرة التي تولّدت عن فضيحة "أبوغريب" قد وصلت إلى مستوى تمرين منظّم في التهرب. فحتى الآن على أقل تقدير، أنتجت هذه التحقيقات الكثير من ممارسات لي ّ الأذرع. لكن في المسألة المركزية المتعلقة بهوية من ينبغي أن يكون مسؤولاً، أصبح الإحجام عن الكلام هو النظام السائد. وعلى رغم أن كلمة "مسؤولية" يدور حولها جدل كبير في ما يتعلق بفضيحة إساءة معاملة السجناء، فإنها بلا عنوان كما يبدو- على الأقل بدون عنوان يرتبط ارتباطاً مباشراً بأسماء ضباط الجيش النظامي.
وإلى حد بعيد وعلى غرار ما يجسده "مجمع الكرادلة" بالنسبة إلى الكنيسة الكاثوليكية، فإن هؤلاء الضباط ذوي الرتب الرفيعة يجسدون المهنة العسكرية. وما داموا يتفادون المسؤولية المباشرة، فإن هذه الأزمة التي تسببت بها فضيحة "أبوغريب" سوف تواصل نموها.
وبدلاً من التحدث عن الحقائق الصريحة، يتراجع المحققون عن الكلمات المراوغة. ووزير الدفاع الأسبق "جيمس شليزينغر"، الذي ترأس أحد التحقيقات، عزا فضيحة "أبوغريب" إلى ما أسماه "الوردية الليلية". وسمح الجنرال "بول كيرن"، الذي تولى إدارة تحقيق "البنتاغون" الذي أصدر تقريراً في الأسبوع الماضي، بالقول إن من الممكن أن يكون هناك ضباط معينون ذوو رتب رفيعة لم يتم ذكر أسمائهم ويتحملون بعض المسؤولية عن فضيحة السجن، غير أنه قاوم فكرة اعتبار أي منهم "مستحقاً للوم". في مقابل ذلك، تمخضت مذبحة "ماي لاي" عن تقرير لم تكن فيه أية صعوبة في تسمية الأشياء بأسمائها الصريحة.
وذلك التقرير، الذي تم إصداره في مارس 1970، كان من عمل الليفتانت جنرال "ويليام بيرز". وباعتباره جندياً من المدرسة القديمة، رفض "بيرز" السماح بإعفاء العديد من الضباط الأعلى رتبة من "كالي" من المسؤولية. ذلك لأن القادة الأرفع رتبة، أي من رتبة كولونيل وجنرال- جعلوا مذبحة "ماي لاي" ممكنة ثم تآمروا للتستر عليها. ولم يكن ممكناً أن يبدأ سلك الضباط عموماً بإعادة التأهيل الذاتي إلا عندما واجه الفساد والتضليل وارتكاب ما هو محظور. ولذلك استدعى تقرير "بيرز" إلى المساءلة سلسلة القيادة ولم يتردد في التصريح بالأسماء. لقد أراد "بيرز" أن تتدحرج رؤوس.
وكانت النتيجة أبعد ما تكون عن العدالة الكاملة. ففي نهاية المطاف، تمت إدانة "كالي" وحده بجريمة. لكن إلى حد بعيد بسبب تقرير "بيرز"، تم تخفيض رتبة الميجور جنرال "صاموئيل كوستر" وإقالته بطريقة شائنة. وتحمّل ضباط آخرون رفيعو الرتبة، بمن فيهم قائد اللواء الذي خدم فيه "كالي"، إهانة المثول أمام محكمة عسكرية، كما تم القضاء على حياتهم المهنية.
والأهم من ذلك أن "بيرز"، في وقت يعج بالارتباك المعنوي الأخلاقي، ذكّر سلك الضباط بأمر جوهري: إذا لم تكن للانحرافات عن المعايير المهنية عواقب، فإن "المسؤولية" تصبح عندئذ خاوية من المعنى. وبالنسبة إلى جيش ما، يكمن بتلك الطريقة انعدام الانضباط والهزيمة.
واليوم، كما في الأيام التي أعقبت مذبحة "