إذا كان مستقبل الأمن العالمي في خطر كما أكدنا من قبل، نظراً لتفاعل عوامل متعددة عسكرية وسياسية واقتصادية وتكنولوجية، فليس معنى ذلك أن نسلم بالرؤى المستقبلية التشاؤمية التي تزخر بها التنبؤات المستقبلية لعديد من التقارير الاستراتيجية العالمية الغربية.
ذلك أن أخطر ما في الدراسات المستقبلية هي المسلمات والافتراضات الكامنة وراء عملية الاستشراف أياً كان ميدانه. ولا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد الخبرة التاريخية في مجال صعود وسقوط التنبؤات المستقبلية. ولعل الدرس الأساسي في هذا المجال يتمثل في نموذج التنمية الذي صاغه "نادي روما" منذ عدة عقود والذي أخذ مكاناً متميزاً بين مراكز البحوث المعنية بالدراسات المستقبلية، حين أصدر تقريره العالمي الشهير "حدود النمو". في هذا التقرير صيغت رؤية تشاؤمية جوهرها اتساع الفجوة بين الموارد والسكان، مما سيخلق أزمة عالمية لا مجال لتفاديها مما سيوقف عملية النمو، بما في ذلك من آثار بالغة السلبية على شعوب العالم. وهذا النموذج النقدي والذي أطلق عليه نموذج "باروليتشى" قدم فكرة مضادة مفادها أنه لو تغيرت بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية لاستطعنا -نحن شعوب العالم- أن نصل إلى مرحلة الإشباع الكامل للحاجات الأساسية للجماهير عبوراً للفجوة المدعاة بين الموارد التي ستنضب والسكان الذين سيتزايدون كما ذهب إلى ذلك تقرير "نادي روما" الشهير.
كان لابد أن نسترجع هذه الخبرة التاريخية في مجال كشف المسلمات الكامنة في التنبؤات المستقبلية قبل أن نحلل نقدياً التنبؤات التي أشرنا إليها في المقال الماضي عن مستقبل الأمن العالمي في العشرين عاماً المقبلة.
التنبؤ المستقبلي الأول كان مضمونه أن العالم سيبقى متعدد الأقطاب بالرغم من النزعة الإمبراطورية الأميركية التي تدفع لكي يكون العالم أحادي القطب، تنفرد به هي بحكم قوتها العسكرية الفائقة وقوتها الاقتصادية. وبالرغم من اتفاقنا الكامل مع الاتجاه العام لهذا التنبؤ، إلا أنه في الواقع يختزل في عبارات موجزة أخطر عمليات الصراع العالمي ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين. وهذا الصراع ينبغي الوقوف أمامه طويلاً لأنه يدور في الواقع بين الإمبراطورية الأميركية التي بزغت نزعتها للسيطرة على الكون خصوصاً بعد أحداث 11/9 وبين العالم كله، وخصوصاً القوى العظمى ومن بينها حلفاء الولايات المتحدة الأميركية نفسها في أوروبا وعلى رأسهم فرنسا وألمانيا.
وحتى نقدر خطورة هذا الصراع ومدى تعقيده، يمكن أن نتأمل تقريرين استراتيجيين بارزين. الأول أصدرته مؤسسة "راند" في العام الماضي من تأليف عشرة خبراء استراتيجيين أميركيين بارزين موضوعه: كيف نضمن ألا ترفع أي قوة عظمى رأسها لتنافس الولايات المتحدة، وتتحداها في مجال السيطرة على العالم باعتبارها المهيمن الأعظم "Hegomon". والتقرير يشير إشارات واضحة إلى الصين باعتبارها هي القوة المحتمل أن تمارس دور المتحدي للولايات المتحدة الأميركية، ويضع توصيات مفصلة موجهة لوزارة الدفاع الأميركية حتى تضمن إجهاض أية محاولة من هذا القبيل وهي في المهد، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية الفائقة.
وهذا التقرير الأميركي يعكس رؤية أقل ما توصف به أنها رؤية جنونية للعالم مفادها ضرورة أن تبقى الولايات المتحدة هي القطب الأعظم الوحيد الذي يهيمن على الكون كله إلى أبد الآبدين!.
غير أن هذه الرؤية للعالم تقف مضادة لها تماماً الرؤية الصينية للعالم، والتي كشف عن مكوناتها الثرية والمثيرة للتأمل العميق بحث قام به "كاميل" وهو خبير أميركي مرموق متخصص في الفكر الاستراتيجي الصيني. والصورة التي يقدمها هذا التقرير الخطير هي أن الصين واثقة من أنها ستنتصر في المعركة التاريخية الكبرى والتي عنوانها العريض: عالم أحادي القطب أم عالم متعدد الأقطاب.
والرؤية الصينية تضع استراتيجية محتملة لإدارة العالم من خلال مجموعة من الدول العظمى من بينها بالطبع الولايات المتحدة، مما سيخلق واقعاً جديداً، ويمهد المسرح العالمي لنظام دولي متعدد الأقطاب في إطار استراتيجي جديد، ستكون فيه لبعض الدول المركزية في القارات المختلفة، مثل مصر في الشرق الأوسط والهند في آسيا، والبرازيل في أميركا اللاتينية، أدوار مهمة تلعبها في ضمان الاستقرار السياسي في مناطقها المختلفة.
أما النبوءة المستقبلية الثانية فهي تكاد تكون إعادة إنتاج لنبوءة "نادي روما" منذ أكثر من خمسين عاماً. وهي المتعلقة بالفجوة المتزايدة بين الموارد والسكان، مما سيشعل نار الصراعات الطبقية الحادة داخل كل مجتمع من المجتمعات وبين الدول النامية والدول الصناعية المتقدمة.
ونفس النقد الرئيسي الذي وجهه من قبل من وضعوا نموذج "باروليتشي" والذين يرفعون شعار ضرورة تحقيق العدالة الاقتصادية بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية، يمكن توجيهه إلى هذا التنبؤ المستقبلي المتشائم.
إن بحث بنية الاقتصاد الرأسمالي العالمي ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين، والذي يعمل تحت راية العو