مثل أربعة مليارات من البشر شاهدت الألعاب الأولمبية على شاشات التلفزيون. ومثل غيري من العرب تمنيت لو كان نصيب العرب من الميداليات أكبر. وكم كنت أتمنى لو أن براءة اللعبة، كما بدأت في أثينا اليونان القديمة عندما كان بعض الفلاسفة، من أمثال سقراط وأفلاطون يشاركون فيها، لازالت تطبع ذلك المهرجان الرائع، لكن الحقائق هي الحقائق. فاللعبة مليئة في الماضي القريب وفي الحاضر بألاعيب السياسة الدولية والإقليمية من جهة وبأنواع الفساد المالي من جهة أخرى. لكنني كمراقب من بعيد تقلقني الملاحظات التالية:
أولا: هل حقاًً أن الانتصارات التي تتحقق هي انتصارات مبهرة للأفراد اللاعبين أم أنها انتصارات للدول التي ينتمون إليها؟ صحيح أن الدول أحياناً تهيئ أماكن التدريب والمدربين وتعطي أحياناً بعض التسهيلات المساعدة، لكن أليس الانتصار في النهاية انتصاراً للجهد والصبر والعزيمة والطموح الفردي؟ ولو كان حقاً غير ذلك فلماذا تستطيع دول فقيرة محدودة العدد والإمكانيات أن تفرز أبطالاً يشار إليهم بالبنان؟
هذه الأسئلة يطرحها الإنسان وهو يشاهد الانتهازية الرخيصة للدول، وهي تحاول أن تسرق الانتصارات لنفسها، وتحاول من خلال ذلك التسويق لأنظمتها، كما فعلت الدول الرأسمالية والشيوعية أثناء الحرب الباردة، وكذلك الادعاء بأنها بلدان متقدمة ومتحضرة لأن تفتـُّح العبقريات والبطولات تمّ بفضل رعايتها. والواقع أن في كلا الادعاءين سرقة أو تقليلاً لوهج البطولة والجهة المبذولة من قبل أولئك الأفراد. مما يزيد الأمر سوءاً أن وسائل الإعلام الوطنية ترسخ هذه الظاهرة بشكل ملفت يسرق جزءاً كبيراً من الانتصار لصالح الدولة أو النظام أو المدرب .
ثانيا: لقد أصبحت ديكتاتورية الإعلام ظاهرة من ظواهر هذا العصر. فالإعلام الحر المنصف غير المهيج أريد به أن يكون أحد أهم إفرازات الديمقراطية الحديثة. لكنه شيئاً فشيئاً بدأ، كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات التي تقع في يد النخب، يمارس ديكتاتورية النخب. فالصراع المحموم إلى حد الهوس من أجل انتصار الفرد أو الدولة في سباقات الأولمبياد واقتناء الميدالية، التي بدورها أصبحت رمزاً للقوة والتفاضل، أحد أهم أسبابه في عصرنا الخوف غير المعلن مما ستقوله وسائل الإعلام، التي تمارس مهمتها في كثير من الأحيان بلا إنصاف وبجهالة وبتعسف. من هنا حالات البكاء والدموع الهستيرية ووضع الرأس بين الركبتين خجلاً وهرباً التي يمارسها غير المنتصرين. ومن هنا أيضاً ظاهرة أخذ المنشطات التي أصبحت كالتنين الذي ما إن يقطع له رأس حتى يظهر رأس آخر.
ثالثا: مثلما فعل النظام الرأسمالي غير المنضبط بظاهرة الجنس حتى أوصلها إلى منازل العُهر والسَّفَه والتجارة فإنه في طريقه إلى أن يفعل الأمر نفسه بظاهرة الرياضة بيعاً وشراءً وتسويقاً وإعلاناً. وإلا فما الذي يفسر أن يكون راتب لرئيس وزراء دولة غربية مئة وخمسة وسبعين جنيهاً، وراتب مدرب الكرة في تلك الدولة يزيد على أربعة ملايين جنيه. إن هذا الجنون سيعكس نفسه في المستقبل على الألعاب الأولمبية. سيجد المغامرون والمتاجرون في شرف الإنسان وكرامته طريقاً له أيضاً. وهو خطر كبير ما لم تعدْ إلى الألعاب الأولمبية روحها الأصلية كمسابقات فيها الفرح والتسامح والتنافس الشريف.
رابعاً: إذا كان قسم كبير من المتسابقين يضع حول رقبته صليباً كبيراً يفقأ العين فلا يتهم بالهوس الديني، فلماذا عندما تضع فتاة مسلمة غطاءً فوق شعرها تقوم الدنيا ولا تقعد؟.