تعتبر صحيفة "واشنطن بوست" نتائج آخر لجان التحقيق الأميركية الرسمية حول انتهاكات سجن أبو غريب "نموذجاً لتناقضات واشنطن الكلاسيكية". تعليق أبسط على هذه التناقضات تتضمنه نكتة عراقية عن رجل دين وجد أشخاصاً يحششون في الجامع، فصاح بهم: حرام عليكم يا جماعة! أجابه الحشاشة بصوت واحد: وعليكم الحرام ورحمته وبركاته.
تقرير لجنة التحقيق المستقلة، التي شكلها "البنتاغون" برئاسة "جيمس شليزنجر"، وزير الدفاع الأميركي الأسبق يورد فقرات من قرارات مشهورة اتخذها قبل الحرب الرئيس الأميركي استثنى بها أعضاء منظمة "القاعدة" وحكومة "طالبان" من المعاملة وفق اتفاقات "جنيف"، باعتبارها جهات "إرهابية". ويشير التقرير إلى تعليمات وزير الدفاع "دونالد رامسفيلد" باستخدام وسائل "قاسية" في التحقيق، بضمنها تعرية السجناء وتعريض أجسادهم لدرجات عالية من البرد أو الحرارة، أو تحقيرهم وإهانة معتقداتهم، أو قسرهم على الجلوس بأوضاع صعبة لمدة ساعات، أو سجنهم انفرادياً فترة تزيد عن 30 يوماً أو مهاجمتهم بالكلاب، أو حرمانهم من النوم والطعام.
وعندما تجرأت مقدمة برنامج الأخبار في قناة التلفزيون البريطانية الثانية "بي بي سي" على طرح نصف سؤال بهذا الصدد: هل سيستقيل "دونالد رامسفيلد"؟
كان جواب جيمس شليزنجر: "هذه تأويلات بي. بي. سي، الموضوع "التعذيب" لا يهتم به سوى في الغرب، ولا يعني شيئاً في الشرق الأوسط. اسألي السجناء أنفسهم وسيقولون إنهم يفضلون أساليب التحقيق الأميركية على السعودية وغيرها من دول المنطقة".
الحرام عليكم ورحمته وبركاته يا "شليزنجر"! تقرير لجنتكم، التي تضم وزيري دفاع سابقين يتضمن معلومات مفصلة عن كيفية نقل الجنرال "جفري ميلر"، قائد قاعدة "غوانتانامو" أساليب التحقيق، التي أوصى بها "دونالد رامسفيلد" إلى العراق، حيث أصدر القائد العام لقوات الاحتلال الجنرال "ريكاردو سانشيز" تعميماً رسمياً باستخدامها. وهل هناك أشد "مسطولية" من إنكار مسؤولية الرئيس "جورج بوش" ووزير دفاعه "رامسفيلد" في حين يعترف تقريركم بأن الجنرال "سانشيز" أجاز استخدام أساليب تحقيق مخالفة لقوانين الجيش الأميركي اعتماداً على القرار الرئاسي الصادر في 7 فبراير 2002 حول اتفاقات "جنيف"؟
سلسلة الأسباب هذه، حسب تعبير "واشنطن بوست" بدأت بقرار "بوش" الالتفاف على اتفاقات "جنيف"، ثم وضع "رامسفيلد" طرق الاستجواب، وبعدها تبّنى القادة العسكريون هذه الطرق في أفغانستان والعراق، وأخيراً استخدمها في سجن "أبوغريب" عسكريون يعتقدون أنهم ينفذون السياسة الرسمية.
وقد أجاز القرار الرئاسي في الواقع ارتكاب هذه الجرائم، حسب تقرير علمي منشور أخيراً في المجلة الطبية البريطانية "لانسيت" Lancet. استشهد التقرير، الذي أعده "ستيفن مايلز"، أستاذ أخلاقيات علوم الطب والبيولوجيا في جامعة "مينيسوتا" بالولايات المتحدة بالأمر الرئاسي، الذي نصّ على التزام القوات المسلحة الأميركية في معاملة المعتقلين بصورة إنسانية "إلى الحد الملائم للضرورات العسكرية بما يتفق مع مبادئ جنيف". هذه "الضرورات العسكرية" وراء سلسلة جرائم الحرب ضد الأسرى والمعتقلين في العراق وأفغانستان، بينها خنق القائد العسكري العراقي اللواء عبد حامد مهاوش، الذي ادّعى أطباء السجن أنه مات بالسكتة القلبية. يصف التقرير الطبي كيف وضع المحققون اللواء مهاوش في كيس مخصص للنوم وجلس أحد حراس السجن على صدره فترة كافية لقتله خنقاً. وسجل طبيب السجن الوفاة بأسباب طبيعية، حسب وثيقة الوفاة التي نشرت في موقع الإنترنت الخاص بـ"البنتاغون". ولم يجرِ التحقيق في الموضوع إلاّ بعد محاولات مستميتة قامت بها عائلة اللواء مهاوش ونشر تفاصيل الجريمة، التي وقعت في نوفمبر 2003 في مايو 2004 في صحيفة "دنفر بوست"، واعتراف وزارة الدفاع الأميركية بأن الحادث يشكل جريمة "نجمت عن استخدام القوة والخنق".
وكشفت محاكمات جرت في كاليفورنيا الأسبوع الماضي ظروف قتل الأسير العراقي العريف نجم حطاب، قائد المجموعة العسكرية المشهورة، التي نصبت لقوات الغزاة كميناً في الأيام الأولى للحرب أدى إلى مقتل 11 من الجنود الأميركيين. وكشف سير المحاكمة أن حطاب توفي خنقاً خلال التعذيب، حيث ركله عريف البحرية "غاري بيتمان" ركلات عنيفة في صدره حطمت الأنابيب التنفسية. في حين ادّعى التقرير الطبي أنه مات نتيجة نوبة ربو. وكان حطاب قد اتهم بضلوعه بأسر المجندة الأميركية "جيسيكا لينتش"، واغتصابها، في حين برهنت التحقيقات اللاحقة على أن المقاتلين العراقيين نقلوا "لينتش" بعد إصابتها بجروح إلى المستشفى وأنقذوا حياتها.
خَنقُ قادة الأعداء وجنودهم جرائم حرب قذرة متخلفة من عصور الهمجية المظلمة. وقد بعث الأميركيون هذا التراث الإجرامي الغابر وأضافوا إليه صفحات جديدة، كشفت عن أحدثها 14 شهادة معتقل عراقي في "أبوغريب" نشرت صورها الأصلية قبل يومين صحيفة "واشنطن بوست"، بعد أن غيّرت الأسماء الحقيقية للضحايا بسبب هول جرائم الاغتصاب الجنسي التي ارتكبت