المنطقة العربية هي الوحيدة، في عالمنا المترامي الأطراف، التي يرشق فيها البعض غيرهم بتهمة الخيانة عندما يظهر أي خلاف في الرأي أو الموقف. وتنفرد منطقتنا أيضاً بأنها الوحيدة التي ينشغل فيها كثير من السياسيين ومن يتعاطون السياسة بقضية الوطنية والخيانة. فخارج هذه المنطقة يتعامل الناس مع بعضهم بعضاً على أساس أنهم مواطنون أياً يكن الخلاف الذي يحدث بين بعضهم بعضاً.
وحدنا نحن العرب الذين يضيِّع عندنا كثير من أهل السياسة الوقت والجهد في مشاحنات ومشاجرات نسميها حوارات سياسية وثقافية. وكثيراً ما يمتد الخلاف فيصل إما إلى اتهام أحد الطرفين للآخر بأنه خائن أو فاقد للوطنية، أو إلى اتهام متبادل. وهذه مشكلة ثقافية قبل أن تكون سياسية، أو قل إنها مشكلة بنائية في ثقافتنا تترتب عليها عواقب سياسية وخيمة. فتصنيف الناس إلى وطني وخائن هو من ميراث الحقبة الاستعمارية. كان الأكثر تشدداً في الموقف ضد الاستعمار يتهم الأقل تشدداً، وليس فقط النازعين إلى المهادنة، بالخيانة أو قلة الوطنية. لم يكن الخلاف إجمالاً بين رفض الاستعمار وقبوله، بل كان تبايناً في الرأي حول كيفية التعبير عن رفض وجود المستعمر والطريقة الأكثر ملاءمة والأوفر فاعلية في مواجهته وإرغامه على الرحيل.
وإنه لضرب من العبث أن يتحول خلاف على وسيلة، وليس على هدف، إلى قضية كبرى في حجم الوطنية والخيانة. ولا يقل عبثاً أن يؤدي خلاف من هذا النوع إلى إضفاء طابع محض سياسي على مفهوم الخيانة ذي الطابع القانوني في الأساس. ولهذا المفهوم في القانون مدلولات عدة تتعلق في معظمها بمعاملات شخصية كخيانة الأمانة والخيانة الزوجية على سبيل المثال، بينما ينصرف أحدها إلى خيانة الوطن.
وقد أصبح العراق المنكوب هو أكثر بلاد أمتنا ابتلاء بالجدل الفارغ حول الوطنية والخيانة، إلى حد يفرض تأمل مدى العبث الذي صار عليه المشهد حين أصبح كل عراقي يعمل لإنقاذ وطنه متهماً في وطنيته ومرمياً بالخيانة. ولذلك وجب أن نسأل: من هو الوطني ومن هو الخائن حقاً في عراق اليوم، بعد أن بلغ خلط الأوراق ذروته؟
هذا السؤال، الذي لابد أن نخجل لأنه ما زال مثاراً في بلاد أمتنا، لا يمكن الإجابة عليه إلا بتفكيكه إلى سؤالين محددين: أولهما: هل الوطني هو الذي يعمل من أجل إخراج القوات الأجنبية من العراق، والخائن هو الذي يؤدي سلوكه إلى إدامة وجودها؟ وثانيهما: هل الوطني هو من يحافظ على وحدة العراق، والخائن هو من يعمل لتقسيمه أو يؤدي سلوكه إلى زيادة فرص التقسيم؟
يبدو السؤالان، للوهلة الأولى، من النوع الذي يحمل إجابته في طياته. فالإجابة التي لا تحتاج إلى أدنى تفكير هي بالإيجاب بالنسبة إلى كل منهما. غير أن المطلوب إجابة تتجاوز الإيجاب والسلب إلى توضيح كيف تكون الخيانة أو الوطنية في المواقف والأفعال وما يترتب عليها من نتائج محددة على الأرض سواء فيما يتعلق بالقوات الأجنبية أو ما يتصل بوحدة الوطن أو تقسيمه.
فلنبدأ بمسألة القوات الأجنبية في وضع بات واضحاً أن جلاءها يتوقف على تحقيق الأمن وبالتالي إجراء الانتخابات وتشكيل حكومة منتخبة تمتلك القدرة على حفظ الأمن العام وتستطيع، عندئذ، أن تطلب من هذه القوات مغادرة العراق وفق ما نص عليه قرار مجلس الأمن 1546. ويحسن أن نستذكر هذا النص بحرفيته في الفقرة الثانية عشرة: (يقرر المجلس استعراض ولاية القوة متعددة الجنسيات بناء على طلب حكومة العراق أو بعد مضي 12 شهراً من تاريخ اتخاذ هذا القرار، على أن تنتهي هذه الولاية لدى اكتمال العملية السياسية المبينة في هذا القرار، ويعلن أنه سينهي هذه الولاية قبل ذلك إذا طلبت حكومة العراق إنهاءها).
فالوطني الذي يسعى لإنهاء وجود القوات الأجنبية هو الذي يعمل لتوفير أجواء الأمن والمناخ السياسي اللازم لتشكيل الحكومة المنتخبة في أسرع وقت ممكن، بحيث تطلب هذه الحكومة إلى مجلس الأمن إنهاء ولاية القوات التي ربط مشروعية وجودها بالامتثال الفوري لطلب العراقيين إجلاءها من بلدهم.
والوطني العراقي الحق، إذن، هو الذي يعمل من أجل إنهاء فوضى السلاح والقضاء على "الإرهاب" في أسرع وقت حتى يمكن إجراء الانتخابات في أول يناير المقبل وفق الجدول الزمني الذي وضعه قرار مجلس الأمن نفسه.
والخائن العراقي، بالتالي، هو الذي يصر على تصعيد الاضطرابات وشن الهجمات المسلحة التي أصبح معظم ضحاياها من أبناء وطنه، لأن سلوكه هذا يحول دون توفر الأجواء التي تتيح للحكومة العراقية أن تطلب إنهاء وجود القوات الأجنبية.
فالوطني الذي يهدف إلى إجلاء هذه القوات لابد أن يسلك طريقاً لا بديل عنه ولا ثاني له، وهو أن يبذل أقصى جهد لإنهاء الاختلالات الأمنية وتوفير مستلزمات إجراء الانتخابات والترشيح لها سعياً إلى الفوز فيها، ومن ثم المشاركة في تشكيل الحكومة التي يكون قرارها الأول هو التوجه إلى مجلس الأمن وتوجيه الشكر له وإبلاغه بأن الوضع لم يعد يستلزم أي وجود أجنبي، وأنه آن الأوان لسحب القوة متعددة الجنسيات وبشكل فوري.
فالطريق واض