في أول فصل من فصول كتابه "الأصول الشرقية للحضارة الغربية"، اختار "جون هوبسون" أن يستشهد بقول "روث بنيديكت" عالمة الأنثروبولوجيا الأميركية
(1887-1948) التي تنفي إمكانية كتابة التاريخ و"كأنه ينتمي إلى جماعة واحدة فقط (من البشر)". لماذا؟ لأنه "زعمٌ يمكن لأي عالم أنثروبولوجيا في أي يوم أن يسمعه من القبائل البدائية ".
"هوبسون"، الباحث في مجال السياسات والعلاقات الدولية في جامعة "شيفيلد" البريطانية ومؤلف أو مشارك في تأليف وتحرير عدد من الكتب، يتصدى للمقولة التي تنادي بأن الشرق اتخذ موقفاً سلبياً على ركن المتفرجين في حين كان التاريخ يحرز تقدماً ويشهد للأوروبيين بالريادة منذ أيام الحضارة الإغريقية التي يقول إنها "مستمدة إلى حد بعيد من الحضارة المصرية".
ويعرض "هوبسون"، مرة أخرى على لسان عالم أنثروبولوجيا هو "إيريك وولف"، لطبيعة ما يتم تلقينه للغربيين من مقولات متعصبة للغرب ترى أنه مجتمع وحضارة مستقلان عن ويعارضان المجتمعات والحضارات الأخرى "الشرق"، وأن له "سلسلة نسب" مستقلة تفيد بأن اليونان القديمة ولدت روما التي ولدت أوروبا المسيحية التي ولدت عصر النهضة الذي ولد عصر التنوير وبالتالي الديمقراطية السياسية والثورة الصناعية التي أنجبت بدورها، بعد تهجينها بالديمقراطية، الولايات المتحدة فجسدت الحق في الحياة والحرية والسعي إلى السعادة. أما سبب التضليل فيرى "هوبسون" أنه ناجم عن تحويل التاريخ إلى "قصة نجاح معنوي" وإلى حكاية يفوز فيها الغرب "الفاضل" على "الأشرار".
وتصدياً لذلك، يستخدم "هوبسون" مصطلح "الغرب الشرقي"، وهو يعني بذلك اعترافاً ضمنياً بأن صعود الغرب لم يكن ممكناً لولا وجود عاملين رئيسين. العامل الأول هو ما يسميه بالاستيعاب أو الاستيلاء، ويعني بذلك استيعابه للاختراعات العلمية في الشرق الذي كان عموماً بين القرنين السادس والتاسع عشر أكثر تطوراً من الغرب. فأولاً، أنشأ الشرقيون اقتصاداً عالمياً وشبكة تواصل عالمية، وهو ما أدى من خلال ما يسميه "هوبسون" بـ"العولمة الشرقية" إلى انتشار المخترعات والمؤسسات والأفكار والنظم وإلى استيعاب الغرب لكل هذا؛ وثانياً، وبعد عام 1492 الذي اكتشف فيه "كريستوف كولومبوس" أميركا- أي بعد أربعين عاماً تقريباً على سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين عام 1453- بدأت عملية تشكل الهوية الجماعية الأوروبية المتغيرة بفعل استيعاب أو الاستيلاء على الموارد الاقتصادية الشرقية، فأدى ذلك إلى تعمق النزعة الإمبراطورية وتمكين الغرب من الصعود، ولذلك "ما كان من الممكن تصور أن صعوده ممكن من دون مساهمات الشرق". وهنا يصرّح المؤلف بأن مهمة كتابه هي "تعقب آثار المساهمات الشرقية المتشعبة والمتعددة الجوانب التي أدّت إلى صعود الغرب الشرقي"، كما يرى أن مصطلح الاستشراق، الذي ينسب صياغته إلى الراحل "إدوارد سعيد" في عام 1978، بات يعني ضمناً "التفوق المتأصل للغرب على الشرق". ويذكر "هوبسون" أن النظرة الاستعلائية الغربية إلى الشرق تعمقت، فأدت إلى تشبيه تبناه المستشرقون ومفاده أن "قارة آسيا تنتظر بونابرت بسلبية" لأنه الوحيد القادر على تحريرها من العبودية، وهي نظرية ينسب إليها المؤلف أهمية حيوية باعتبار أن التحرير الذي صار يُطلق عليه اسم "عبء الرجل الأبيض" قد أدى إلى وسم الشرق كله بالسلبية والغرابة والافتقار إلى مبادرة للتطور الذاتي- أي النظرة التي عمّقتها رؤية الغرب للشرق من خلال الخيال الذي ألهبته مؤلفات كألف ليلة وليلة- وإلى إعطاء مبرر للغرب يجيز له اختراق الشرق والسيطرة عليه، وتهميشه.
وفي بحثه عن أسباب نزعة الغرب إلى تهميش الشرق، يقول "هوبسون" إنه يتفق تماماً مع تفسير "ويليام إدوارد دو بوا"، أول أميركي أسود ينال شهادة الدكتوراه من جامعة "هارفارد"، وهو تفسير مفاده أنه "كان هناك سعي متواصل إلى تسويغ عبودية الزنوج بحذف أفريقيا من تاريخ العالم".
ويؤكد "هوبسون" على أن تهميش الشرق، أو حتى حذفه، يشكل صمتاً في غاية الأهمية لأنه يخفي ثلاث نقاط رئيسية. النقطة الأولى هي أن الشرق قاد على نحو فاعل "تنميته الاقتصادية المستدامة" بعد القرن السادس الميلادي، خلافاً للغرب الذي كان في المؤخرة بهذا الاعتبار. والنقطة الثانية هي أن الشرق أنشأ وحقق استدامة الاقتصاد العالمي بعد عام 500 -أي في فترة صعود الإمبراطورية البيزنطية. والنقطة الثالثة والأهم هي أن الشرق قدّم إلى أوروبا، وبالتالي إلى عموم الغرب، الكثير من الموارد الحيوية- المتقدمة بحسب مقاييس ذلك العصر- ومنها التكنولوجيات والمؤسسات والأفكار والنظم وغير ذلك، وهي التي لعبت دوراً عززته "العولمة الشرقية" وامتد عبر عصر النهضة الأوروبية والثورة الصناعية اللاحقة.
لكن ذلك كله لا يجعل "هوبسون" يسرف في انتقاد النظرة والآراء والمواقف الغربية حيال الشرق، وهو لا يؤمن بأن الغرب كان متلقياً سلبياً لما قدمه الشرق من إسهامات متنوعة، وهو عموماً يدعو إلى إبراز وتأكيد الواقع الحقيقي لمجريات التاريخ بإحياء ع