في ليلة هادئة من ليالي شهر مايو الجميلة، حيث لا يعرف الفرق بين الفصول في جزء من العالم ينقسم بين النار والجنة، ولا توجد فواصل بين الفصول الأربعة، ولا يمكن التمييز بين الأوراق الخضراء، دليل عودة الحياة، وبين الأوراق الصفراء، دليل بداية النهاية... في ظل هذه الأجواء يحتاج الإنسان إلى أن يعود إلى توازنه، وربما إلى ما يحفظ حياته من أمواج التناقضات السائدة في مجتمعاتنا العربية، أو ربما في حياة النخبة. تلك النخبة التي تساهم بشكل فعال في تشكيل الوعي، والدعوة إلى إحداث تغيير في الحياة العامة. فكم هو مؤسف أن الأفراد هم الذين يشكلون التاريخ، الذي قد يكون خطوة إلى الأمام أو خطوات للخلف. ولعل المتابع للتاريخ الإنساني بشكل عام، يلاحظ أن المؤثرين فيه هم الأفراد، إلا أن حركة أولئك قد تكون للمصلحة العامة، وبالتالي تبارك الأغلبية ذلك، أو تكون عكس ذلك فيدفع العامة ثمن تزيف وعيهم. ويظل ذاك الرويبضة ينعم بخيرات ما جناه على العامة من دون عقاب يذكر. وهؤلاء الأفراد هم من الطبقة الفاسدة التي يطلقون عليها اسم "نخبة" وهم أبعد ما يكونون عن ميزات النخبة. أولئك الذين يساهمون من دون إدراك في إشعال عدم الاستقرار الاجتماعي أو السياسي أو حتى الاقتصادي. إنهم أولئك الذين يساهمون في إعادة كتابة التاريخ ولكن كما ترغب "النخبة" المهيمنة على الأمور، كأن يقوموا بمدح السلطان عن إنجازات هي في الواقع حصيلة لجهود مئات وربما آلاف ممن قدموا حياتهم قرباناً من أجل حياة أفضل. وبجرة قلم وبتعمد، ينسب التقدم والتطور، وممارسة الحياة بشكل أفضل لتلك القوى المهيمنة، دون الأخذ بعين الاعتبار نضالات الشعوب ووعي متخذي القرار بأهمية التلاحم بينها وبين العامة. حينها ندرك أن التاريخ في الألفية الثالثة، لم يعد كما كان في القرن التاسع عشر من الألفية السابقة.
كم هو محزن سقوط ذلك الإنسان أو تلك النخبة التي كانت تحمل مشعل الحرية والمساواة، حينما تجدها قد أصبحت تقاد تحت راية القوى التي كانت تحارب من أجل إسقاطها، أو في أحسن الحالات الحد من نفوذها في المجتمع. لذا كانت بعض الأطروحات ذات علاقة بالفصول الأربعة، وهي محاولة جيدة في بعض الأحيان لإعادة الحياة للخط الوطني والقومي والأممي، إلا أنها في حالات أخرى هي الركوع أمام الأمر الواقع، بل هي نفاق سياسي ساذج، وسرعان ما تدرك القوى المهيمنة أن أولئك يحاولون أن يكونوا بيادق في لعبة الشطرنج في زمن لم تعد تلك القوى بحاجة إلى مثل أولئك الأفراد الذين أصبحوا جزءاً من طابور يبحث عن موضع تحت القدم.
في هذه اللحظة برز لي ذلك الصديق من تحت التراب وربما من تحت الحجر، وقال لي هل تعتقد أن النار قد تحولت إلى رماد؟ وأن الحياة لم يعد لها مذاق؟ أم أنك ما تزال تبحر في بحار غامضة؟. ألم تدرك أن الجميع يبحث عن صكوك الغفران؟ وأن أولئك (الغرامشيين) ما يزالون على قيد الحياة. لقد كنت ساذجاً حينما صدقت أولئك الباحثين عن التمتع بالنفوذ وحتى تحت أقدام من يحتقرونهم، أو يعاملونهم كرقيق في القرن الجديد. إن الخمة الجديدة، عفواً النخبة أو ممن يدعون أنهم النخبة الجديدة، يحملون ألف راية وراية. فهم ملكيون أكثر من الملك، وجمهوريون أكثر من الجمهوريين، وربما ماركسيون أكثر من ماركس. إنهم حاملو الرايات الرمادية، يدافعون عن الشيطان في محاكم الملائكة، ويقدمون السم للملائكة في عهد السلام القاتل.
أدركت ما يحاول ذلك الصديق أن يقوله، ومن دون مقدمات قلت له، كيف يمكن أن يحدث ذلك في زمن الحرية وحقوق الإنسان والمساواة وفي الوقت الذي يبحث فيه الجميع عن صكوك الغفران من الأم الكبرى؟. قال من دون تردد: ألم تقرأ ما كتب في العهد البائد في العراق، عما يسمى "البراءة" ؟. ألم تقرأ قصيدة مظفر النواب، تلك القصيدة الرائعة للأم أو الأخت التي ترجو عدم كتابة البراءة. قلت له ذلك كان في زمن صدام. قال وهو يطلق ضحكة عالية إن هنالك العديد ممن لا يختلفون عن الظاهرة الصدامية يملؤون الساحة العربية، وإن هنالك العديد من أشباه المثقفين ممن يساندون ذلك الاتجاه، ولكن بأشكال مختلفة، وهذه هي الحياة يا من تبحث عن الحقيقة في زمن تهيمن عليه شخصيات بعيدة كل البعد عن الحقيقة.
في هذه اللحظة رن جرس المنبه ليقول لي إن ساعة العمل قد حانت، وإن ذلك كان حلماً من أحلام الصيف القاتلة، وإن الحياة هي مع من يسير مع العجلة، وإن أحلامنا بشروق الشمس قد ماتت منذ زمن بعيد، وإن الحياة لم تعد جهاداً أو عملاً، بل هي ركوب الموجة الخامسة من قمع الإنسان، حتى لو قال الحقيقة!.