التصعيد الوحشي للأعمال الإرهابية في العراق ضد الحكومة المؤقتة، والانتقام البشع من الشرطة العراقية وعموم أبناء الشعب ممن يبحثون عن فرصة عمل، يكشفان أكثر من أي شيء آخر الروح الدموية لما تسمى بـ"المقاومة العراقية" وإفلاسها السياسي الواضح. فمن يفسر لنا هذه الجرائم اليومية بحق هذا الشعب، ومن يشرح لنا ماذا تريد هذه "المقاومة"، التي على كثرة ما ارتكبت من مذابح متنقلة، وما يتمت من أطفال، ورمّلت من نساء، وأثكلت من أمهات، ودمرت من ممتلكات، وجرحت وشوّهت وعوّقت من أبناء الشعب العراقي، ممن تزعم حمل لواء "المقاومة" دفاعاً عنهم، لم تقلْ لنا مَن هي وما برنامجها، ومَن مِن رجال العراق ضمن قيادتها، وما الحلول التي تحملها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً لمشاكل العراق... اللهم سوى المطالبة الغامضة الأهداف والنتائج، بالخروج الفوري للقوات الأجنبية من العراق؟! مؤيدو "المقاومة العراقية" من الكتاب والمثقفين والإعلاميين اليوم في ورطة حقيقية. فبعكس ما نعرف جميعاً عن حركات "المقاومة" عبر القرن العشرين كان لهذه الحركات فكر سياسي معين، بل وكان يناصرها شعراء وأدباء ومفكرون وفلاسفة في بعض الأحيان. أما هذه "المقاومة" فقد تحولت إلى عصابات تقتل الناس بالجملة والمفرق، وتقتل بالذات كل من يعجز عن الدفاع عن نفسه من أبناء العراق والباحثين عن فرص العمل، وتضم في صفوفها جماعات من فلول النظام القديم، وعناصر من أجهزته الأمنية المجرمة، وعدداً لا بأس به من "الإرهابيين" الأصوليين. فما الذي يمكن أن يجمع هؤلاء؟ وأي عراق سيكون ذلك الذي تتولاه وتقوده هذه المجاميع؟ بل وأي من الإعلاميين والمثقفين يرضى بأن يكتب وينشر في ظل نظام كهذا، أو حتى يسمح له بأن يتحرك في أروقته، تحت إشراف "الزرقاوي" و"بن لادن"!
هذه "المقاومة" تذكرنا ربما بمقاومة "الجيش الأبيض" ضد ثورة 1917 الروسية. وقد تساءل المؤرخون مراراً، لماذا لم تسقط الثورة البلشفية هناك، رغم قوة واستمرارية المعارضة والمقاومة المسلحة؟
لقد أخرج "لينين" روسيا من الحرب العالمية الأولى، ووقع مع الألمان صلح "برست لاتوفسك" متنازلاً عن مساحات شاسعة من روسيا، وأقدم على برامج اشتراكية واسعة داخل روسيا أثارت ضده حفيظة كل أنصار النظام القديم. وهكذا قام جنرالات النظام القيصري بتنظيم مقاومة واسعة للثورة في أوكرانيا والقوقاز وشرقي الأورال وغيرها، بهدف إسقاط النظام الجديد. بل إن الأدميرال القيصري "كولجاك" Kolchack، أقوى قادة المقاومة، أعلن نفسه حاكماً أعلى لعموم روسيا! وكافح النظام الجديد هذه الجماعات العسكرية التي تحالفت كذلك مع قوى التدخل الأجنبية ضد الثورة مثل الجيوش الألمانية والإنجليزية والبولندية واليابانية. وامتد الصراع ثلاث سنوات، أبدى النظام الجديد خلالها مقاومة يائسة، وتقلصت سلطاته أحياناً إلى ضواحي "موسكو" و"بطرسبورغ"، وتوقع كل المراقبين سقوطه بين ليلة وضحاها. ولكن السلطة السوفييتية استمرت! وفي نوفمبر عام 1920، مع هزيمة "البارون رانجيل" Wrangel، كسب البلاشفة الحرب الأهلية ضد "الجيوش البيضاء".
كيف كسب السوفييت هذه الحرب ونجح النظام الجديد في البقاء؟ كُتب تاريخ الثورة الروسية تشير إلى عدة أسباب:
الأول، الطريقة البارعة التي أدار بها "تروتسكي" مجريات هذه الحرب عندما بادر إلى تكوين "الجيش الأحمر" من العمال وأنصار الثورة.
الثاني، انعدام التنسيق بين جماعات وقيادات القوى والجيوش المضادة للثورة. فقد كانت مستقلة في قراراتها، متفرقة في أماكنها، متنافسة متحاسدة وأحياناً كثيرة... فاسدة!
الثالث، خوف الجنود والفلاحين من عودة النبلاء والتسلط على حياتهم ثانية.
الرابع، استغلال الثورة للمشاعر الوطنية والقومية ضد قوى التدخل الأجنبية المتحالفة مع "الحرس الأبيض" وقد يشبه حال ذلك التدخل ما تشتكي منه الحكومة العراقية اليوم من "تدخلات الجيران"!
الخامس، وربما كان الأهم، هو طابع عملاء الثورة المضادة أي الجيوش البيضاء في روسيا وما ارتكبوا من حماقات وجرائم، وفشلهم في وضع أي برنامج وطني ينافس ذاك الذي كان يبشر به رجال الثورة:"السلام للجنود، الخبز للعمال، والأرض للفلاحين"!
في كتابه المعروف "تأملات في ثورات العصر"، الذي وضعه الاشتراكي البريطاني "هارولد لاسكي" عام 1942 - وقد ترجم إلى العربية- يقول عن المقاومة التي وقفت في وجه الثورة الروسية ثلاث سنوات ثم تداعت... ما يلي:"لم يستطع المجتمع المنهار أن يضع في مواجهة عبقرية لينين وزملائه سوى مجموعة متتالية من المغامرين السيئين الذين لم يكن لديهم أي برنامج يتقدمون به سوى إعادة النظام الذي قامت الثورة احتجاجاً شاملاً ضده، بصورة ما، والذين لم يكن لديهم من وسيلة لتنفيذ ما يريدون سوى الإرهاب الفظيع وإراقة الدماء بوحشية. فحيثما ذهبوا أشاعوا بين الناس الكراهية لما يمثلونه، وولدت أساليبهم في مناطق شاسعة من البلاد اعتقاداً جازماً بأن البلشفيين هم مُخلِّصوهم من انتقام هؤلاء العملاء البشع. إن البلشفيي