يبدو أن جزءاً صغيراً من الأزمة الفلسطينية الداخلية قد تم حله بالاتفاق بين الرئيس عرفات ورئيس وزرائه "أبو علاء" حول السيطرة على الأجهزة الأمنية وفقاً لما جاء في القانون الأساسي أو الدستور المؤقت. وفي الوقت ذاته بدأ هجوم مضاد على كل من يثير قضية الفساد في السلطة وهو هجوم يركز كما هو متوقع على أن إسرائيل هي المستفيد من الأزمة فضلا عن تصوير الأزمة ذاتها على أنها صراع على السلطة بين شخصيات متنفذة خفية وظاهرة، وأن هذه الشخصيات تجهز لإقصاء عرفات عبر تلك الأزمة التي توصف بأنها مشبوهة من حيث التوقيت والأهداف. حيث توصف الشخصيات التي ينسب إليها تحريك تلك الأزمة بأنها هي ذاتها فاسدة وبالتالي لا مصداقية لها في طرح قضية الفساد على الملأ وأنها تستهدف وقف الانتفاضة. وبكل أسف ليس من الممكن حماية أي جدل نظري وراقٍ حول القضايا السياسية والاستراتيجية الكبرى من الجدل الحزبي أو الفصائلي داخل الأرض المحتلة وفي العالم العربي بوجه عام. كل ما يمكن عمله هو أن يبدأ الكاتب بتوضيح مطلبه العام من الجدل وأن يتمسك به رغم التداخل المعقد بين الخطاب الإصلاحي القومي والمتعالي على الخلافات والمصالح الحزبية والفصائلية والجدل المنطلق من هذه الخلافات بذاتها حول القضايا السياسية والاستراتيجية.
وبادئ ذي بدء لابد أن يلاحظ المرء أن النموذج الإعلامي الذي اتخذه الهجوم المضاد لـ"الانتفاضة الإصلاحية" في غزة وفي الأرض المحتلة كلها مشوبٌ بعيوب جوهرية. وأول هذه العيوب هو أن ذلك الهجوم المضاد يتشكك في قدرة الشعب الفلسطيني أو أي قطاع منه على طرح قضية الإصلاح ومناهضة الفساد إن لم ينطلق من "صراعات عُصب" أو "مصالح خاصة" ذات روابط أو توجهات أميركية أو حتى إسرائيلية. ويظهر هذا العيب الوحشي في تجاهل أن التمرد الذي وقع بغزة كان رد فعل من جانب مناضلين قاعديين تحملوا العبء الأساسي للنضال ضد قرارات محددة اتخذها الرئيس الفلسطيني وانسجمت مع "نمط تاريخي" من التعيينات لرجال مشكوك في نزاهتهم الشخصية وكفاءتهم المهنية لمجرد أنهم يعدون في لحظة معينة "رجال الرئيس". إن المتابعين لمنهجية القيادة الفلسطينية منذ عقود يدركون بوضوح أن بعض هؤلاء لم يثبت حتى أمام "اختبار الولاء" حتى للرئيس. وأنه كانت للعديد منهم أجندته الخاصة التي يرقى إليها كل شك. ولكن القضية تتجاوز بالطبع "الولاء للرئيس" بل تتجاوز أية ولاءات أخرى لغير القضية الوطنية والقومية. فالكفاءة القيادية والمهنية كان يجب أن تكون العامل الحاسم في أية تعيينات وخاصة فيما يتعلق بمناصب مهمة بالنسبة لمصير الشعب الفلسطيني مثل رئاسات الأجهزة الأمنية. وهذا هو تحديداً ما حفز فقراء المخيمات والمناضلين القاعديين للتمرد على هذا النمط من القيادة. ولا يجوز أبداً تجاهل هذا المضمون الأصيل للانتفاضة الإصلاحية بربطها تعسفاً بأجندات خاصة حتى لو أن بعض أصحاب هذه الأجندات قد تبنوا الانتفاضة.
وثاني هذه العيوب هو أن النموذج الإعلامي للهجوم المضاد يركز على التوقيت. وهنا يقال إن الأزمة غطت على الانتصار الكبير المتمثل في الحكم التاريخي لمحكمة العدل الدولية حول الجدار. فإذا أخذنا بهذا المعيار يتعين علينا أن ننصاع للأمر بتجاهل قضية الإصلاحات السياسية بل وتجاهل قضية الفساد بوجه عام ربما إلى عشرات السنين المقبلة. ومن هذا المنظور لم يكن هناك وقت مناسب لنقد نمط التعيينات ومنهجية القيادة لأن الشعب الفلسطيني لم يحصل أبداً على "هدنة" أو "وقت مستقطع" من الصراع مع إسرائيل حتى في غضون سنوات أوسلو. وهنا أيضاً فنموذج الدعاية المضادة لـ"الانتفاضة الإصلاحية" يخطئ عندما يصور الأمر وكأن الزمن لم يعن شيئاً فيما يتعلق بمسألة الإصلاحات السياسية وتحديداً محاربة الفساد. فالواقع أن قضية الفساد لم تطرح أبداً قط بهذه القوة التي طرحت بها في غزة لأن التناقض بين بؤس وتضحيات الشعب الفلسطيني في غزة من ناحية والفساد المستشري في بنية السلطة وخاصة في الأجهزة الأمنية من ناحية أخرى لم يتجل قبل ذلك بهذه الحدة، وخاصة بعد الجرائم المروعة التي ارتكبها نظام الاحتلال الإسرائيلي في غزة عموماً وفي رفح على وجه الخصوص خلال الشهر الماضي. فالإنسان الفلسطيني البسيط كان يرى أن شعبه وخاصة في المخيمات يعاني بصورة مخيفة في الوقت الذي يستمرئ فيه البعض على قمم أجهزة معينة الاستمرار في جمع المال الحرام بمباركة قيادة لم يهمها شيء إلا "ضمان السلطة المطلقة" و"الولاءات الشخصية".
وثالث هذه العيوب هو أن هذا النموذج يقوم على افتراض خاطئ جوهرياً وهو أن الشعب الفلسطيني يستطيع أن يصلح مؤسساته وأن ينقد منهجية قيادته فقط عندما يحقق الانتصار. بينما التجربة التاريخية تقول بالعكس تماماً: أي أن الشعب الفلسطيني لن يحقق الانتصار إلا إذا قام بإصلاح مؤسساته القومية والاجتماعية ومنحها زخماً أو قوة دفع جديدة في مواجهة ما يحدث على جبهة العدو الذي يتقوى منهجياً ببروز موجات جديدة من التطرف الصهيوني وباستمداده لعناصر جديدة تضيف إلى جموده