لا أحد ينكر أن العالم العربي من محيطه إلى خليجه يواجه أزمات ومشكلات ومحناً في كل المجالات، بعضها يحتاج إلى معجزات لحله، والبعض الآخر يحتاج إلى تضافر جهود الجميع من حكومات ومنظمات ومجتمعات ومواطنين لمواجهته. ولكن المثير للدهشة أن الإعلام المرئي المنوط به المساهمة في تشكيل الرأي العام للمشاركة في مواجهة كل هذه القضايا يحيا في كوكب آخر، وإن كنا لا ننكر بعض الجهود الفردية لقنوات فضائية عربية، الأمر الذي يشعر معه المشاهد بأن هناك من اختطف الإعلام العربي لتغييبه عن حاضره، وشغله بالتفكير في متعة تسلية اللحظة، وبالتالي ينسلخ ببطء عن واقعه، ويفقد الأمل في مستقبله، ثم نجد أنفسنا نعود ونتساءل بعد "خراب مالطا"، عن الحاجة إلى إصلاح الإعلام أو تطويره. هل أصبحت مادة الترفيه وبرامج التسلية هي الاستراتيجية الإعلامية العربية للقرن الحادي والعشرين؟ وما هي التداعيات والنتائج المترتبة على ذلك؟ ومن سيدفع الثمن؟ ومن المسؤول عن اختطاف الإعلام العربي؟ وهل نجحت الفضائيات العربية، قديمها وجديدها، في تشكيل رأي عام للمواطن العربي تجاه قضاياه المصيرية التي تواجه أمنه الوطني والقومي؟. ما هو الدور المطلوب من الإعلام المرئي أن يؤديه؟ وكيف نحققه؟ ومن المسؤول عن صياغة الخطاب الإعلامي العربي في جميع المجالات؟ أسئلة كثيرة تتداخل وتتراكم في محاولة لفهم ما يحدث حتى يمكننا فهم ما يجري على شاشات التليفزيون العربية من جانب، وما يجب علينا عمله لتحرير الإعلام العربي من قبضة مختطفيه.
نقر ونعترف أن الترفيه رسالة مهمة للإعلام خاصة المرئي منه، ولكنها ليست كل شيء. كما أننا في حاجة إلى التسلية حتى لا نكتئب من جراء ما يحدث للعرب من محن وأزمات. ولكن برامج التسلية حالياً تتسم بالتفاهة والإسفاف لذلك أصبحت إشغالاً لوقت المشاهد بلا فائدة ثقافية أو علمية أو ترفيه. ورغم ذلك تركز معظم الفضائيات العربية على هذه النوعية من البرامج. وإذا حاولت هذه الفضائيات التعرض لأي من القضايا المحلية أو العربية نجدها تتعامل معها على استحياء، وبهدف ذر الرماد في العيون، و"سد خانة". لذلك حينما نبحث في أسلوب تناول الفضائيات العربية لهذه القضايا نجدها لا تخرج عن إحدى خمس صور، لا يختلف أفضلها كثيراً عن أسوئها.
في الصورة الأولى نجد أن الفضائية تستغل عرض الأخبار لتناقش بعضها، وتُجرى هذه المناقشة إما مع أشخاص يصفون أنفسهم بالخبراء الاستراتيجيين ويتحدثون بسطحية شديدة عن موضوعات وقضايا لا يدري معظمهم عنها شيئاً، وإما شخصيات رسمية تأخذ دائماً موقف الدفاع وتؤكد على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
الصورة الثانية هي البرامج الحوارية، وأقل ما يمكن أن توصف به أنها حوار "الطرشان"، فالجميع يصرخ ويوجه سيلاً من التهم للآخر، ولا يقبل سوى رأيه، والمسؤول عن الحوار إما أن يشارك ويتخذ موقفاً لزيادة الإثارة من دون أن يكون هناك هدف واضح للرسالة الإعلامية المطلوب إيصالها للمشاهد، أو يلتزم الصمت ويركز على الأسئلة التي تم إعدادها له خوفاً من العقاب أو لعدم إلمامه بموضوع النقاش، أو لسعادته بشجار المدعوين لأن هذا يعني في مفهومه الشخصي حرية التعبير وإثراء الحوار، ويتناسى أن المطلوب هو النقاش الموضوعي الهادف للتوصل إلى صياغة رأي معين حول قضية مطروحة، فيضيع الهدف وسط ضجيج الشتائم والانفعالات.
أما الصورة الثالثة فنراها حين تدعى إلى الحوار شخصية ليس لها علاقة بالموضوع أو جاءت لتعلق عليه، في حين أن أصحاب القضية الأصليين لم يدعوا للمشاركة في بحث موضوعهم، فنجد عربياً يعلق على موقف اتخذته فرنسا أو أميركا أو بريطانيا، ولذلك فهو يبحث عن مبررات وأسباب تحمل وجهة نظره ومنظوره للموضوع وخلفيته الثقافية والعلمية، وفي الوقت نفسه لم تتح الفرصة للمسؤولين عن الموضوع لعرض وجهة نظرهم ثم مناقشتهم فيها. وبالتالي تكون النتيجة هي عرض موضوع مشوه وفق تصورات خاطئة ويفتقد العلمية والاحترافية المهنية المطلوب توافرها في أجهزة الإعلام، وينعكس ذلك على المتلقي الذي يخرج بفهم مشوش عن الموضوع.
أما الصورة الرابعة فهي البرامج التي يتخذ فيها المذيع موقف المدعي العام، ويرتدي عباءة القاضي، وكل ما يملكه هو اتهامات وادعاءات يجب على المتهمين، أقصد المدعوين للحوار، أن يدافعوا عن أنفسهم بشأنها، ويدرؤوا التهم الموجهة إليهم. وعادة ما تحمل هذه التهم السمة الشخصية ولا يحقق الحوار فيها سوى تسلية المشاهد.
والصورة الخامسة هي تركيز الفضائيات على قضيتين فقط هما العراق وفلسطين، ورغم تسليمنا بأهمية هاتين القضيتين لجميع فئات المجتمع العربي باعتبار أنهما مؤثرتان بشكل مباشر على الأمن القومي العربي، فإن هناك قضايا أخرى لا تقل أهمية بل ربما يكون الاهتمام بها هو طريق الحل للقضيتين الأساسيتين. فعلى سبيل المثال بناء القوة الاقتصادية، وبناء القاعدة التكنولوجية، والتحديث الحضاري، وتطوير المجتمعات العربية، وبناء قوات مسلحة عصرية، والتخلي عن المظهرية، ومكافحة الفساد الإداري،