البشير: "لعبة" المعارضة و"لعنة"الترابي


 لم يكن السودان الذي خرج للتو من حرب طاحنة في جنوبه، بحاجة إلى حرب أخرى لعلعت نيرانها فجأة في إقليم دارفور في غرب البلاد، لولا سياسات الحكومة "الإسلامية" القائمة هناك منذ خمسة عشر عاماً بقيادة الرئيس عمر حسن البشير، والتي يرى هو وأنصارها أن إنجازاتها الحقيقية ونزعتها الأصيلة إلى الاستقلال وتحقيق الكرامة والتقدم وإعادة الدين إلى موقعه الحيوي في الحياة العامة .. هي السبب وراء ما يحاك ضدها من ضغوط ومؤامرات.


 بينما يرى معارضوه أن السودان في ظل نظامه أصبح مثالا للدولة الفاشلة والمأزومة والعاجزة؛ أي الأكثر تخلفاً وفساداً واستبدادية في الداخل، وعزلة خارجية بلغت أوجها مع التوجه الحالي نحو تدخل دولي لمعاقبة نظام الخرطوم! ويبدو أن الرئيس البشير الذي أعلن التعبئة العامة أواخر الأسبوع الماضي، في مواجهة مساعٍ تبذلها دول غربية لاستصدار قرار من مجلس الأمن لإدانة السودان، يعول في هذه المرحلة الحرجة على ثمار الاختراقات التي حققها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، بما في ذلك جهوده في استقطاب المعارضة السودانية، ونجاحه في إنهاء حرب طالما دوت مدافعها منذ عشرين عاما، فضلا عن بعض القبول الذي أصبح يحظى به إقليمياً ودولياً نظام حكمه. فقد لعب الرئيس البشير بورقة التناقضات داخل "التجمع الوطني الديمقراطي" المعارض الذي كان قوة كبيرة تبدو بمثابة بديل لنظام ثورة "الإنقاذ"، وقام بخطوات تقارب نحو القوى الشمالية في التجمع، فجاء لقاء جيبوتي التاريخي بينه وبين رئيس حزب الأمة السيد الصادق المهدي في نوفمبر 1999، وأعقبه لقاء أسمرا مع الأمين العام للتجمع محمد عثمان الميرغني، ثم عقد لقاءً تاريخيا مع قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان العقيد جون جرنق في العاصمة الأوغندية كامبالا في يوليو 2002، ليرسم الخطوة الأولى نحو إنهاء الصراع الدامي في الجنوب، فبادر إلى الإعلان عن قبوله بإعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير، مما أحدث رجة في التجمع الذي سبق أن طالب للجنوب بذلك الحق خلال مؤتمر أسمرا عام 1993، لكنه استبُعد من المفاوضات التي جرت برعاية "الإيجاد" بين الحكومة والحركة الشعبية، والتي أفضت إلى اتفاقيتي ماشاكوس ونيفاشا العام الماضي.


وقد جاء الانفراج الحاصل بين الرئيس البشير وقوى المعارضة السودانية، إثر الخلاف الذي نشب بينه وبين شيخه الدكتور حسن الترابي والذي انتهى بقطيعة تامة بينهما منذ أواخر عام 1999، وجلب بعض الدفء الذي طالما افتقدته علاقات حكومة "الإنقاذ" بعدد من الحكومات الإقليمية التي رحبت بإجراءات إبعاد الترابي. وكان عمر حسن البشير، المولود عام 1944 في إحدى قرى ريف شندي بشمال السودان، قاد مع مجموعة من رفاقه الضباط انقلاباً عسكرياً استولوا خلاله على مقاليد السلطة صبيحة الجمعة 30 يونيو 1989، وشكلوا مجلس قيادة "ثورة الإنقاذ" كهيئة حاكمة برئاسة البشير، وأعلنوا إلغاء الدستور وحل الحكومة المدنية والبرلمان المنتخب، وحظروا الأحزاب السياسية وزجوا بقادتها في السجون.


لكن الانقلاب الذي أطاح بثالث تجربة ديمقراطية في السودان الحديث ولقي ترحيباً من بعض العواصم العربية، سرعان ما اتضح أن الجبهة الإسلامية القومية بقيادة الترابي تقف وراءه. فمنذ أواسط السبعينيات أنشأت الجبهة أذرعها السرية الضاربة في الجيش والأمن، وكان على رأس الضباط الذين حازت ثقتهم الفريق عمر حسن البشير أحد أبناء العائلات المنتمية إلى الطائفة الختمية، وإن لم تعرف عنه طموحات سياسية بارزة، لكنه كان على صلة بالساحة السياسية منذ أواسط السبعينيات عندما كان مسؤولا في مكتب المخابرات العسكرية، فحينئذ بدأت تنمو بينه وبين الجبهة القومية الإسلامية بزعامة الترابي خيوط سرية للاتصال والتنسيق، واطلع بحكم مركزه على الملفات السرية للعديد من ضباط الجيش واستطاع تجنيدهم في إطار التنظيم العسكري السري للجبهة القومية! وتؤكد شهادات الذين تعرفوا على البشير عندما كان في المدرسة الثانوية أوائل الستينيات إثر قدومه للدراسة في الخرطوم، أنه كان ذا ميول إلى أفكار جماعة الأخوان المسلمين، وأنه انضم إلى الجبهة القومية وهو ضابط صغير، ثم ظل على صلة وثيقة بقيادتها أثناء عمله بجهاز الاستخبارات العسكرية، وأنه كان ملتزماً بتوجهاته العقائدية والسياسية لكنه كتوم وحريص على إخفاء ذلك الجانب من حياته، بل إنه حتى بعد تنفيذ انقلاب "الإنقاذ" بنجاح ألقى داخل المعتقل بشيخه حسن الترابي الذي قال فيما بعد:"اتفقنا أن أذهب أنا إلى السجن وهو إلى القصر".


وأظهرت السنوات الأولى من حكم الرئيس حسن البشير توجهاً مناوئاً للتعددية السياسية وحدث انتهاك الحريات العامة وظهر في السودان ما عرف بـ"بيوت الأشباح"، وذلك في ظل مجلس قيادة الثورة الذي استمر حتى تم حله في 16 أكتوبر 1993. وإن اعتبر البشير أن انتخابات عام 1996 مثلت تحولا من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، فإنها لم