كثر الحديث عن الديمقراطية أخيراً في الداخل والخارج. وتعددت النشرات والمجلات حولها. وقامت المظاهرات للمطالبة بها. وهي أول بند في جدول الأعمال الخارجي الذي تفرضه الولايات المتحدة في مشروع الشرق الأوسط الكبير. فسرقت الأضواء من المثقفين الوطنيين الذين ناضلوا على مدى قرنين من الزمان دفاعاً عن الحرية والديمقراطية خاصة في نصف القرن الأخير بعد قيام الضباط الأحرار بثوراتهم منذ أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. وسحب البساط من تحت أقدامهم حتى توقفوا عن استعمال اللفظ بعد أن تحول من جدول الأعمال الوطني إلى جدول الأعمال الأميركي، ومن النضال الوطني في الداخل إلى الهيمنة الأميركية في الخارج، وذلك مثل كل مشاريع الإصلاح، إصلاح التعليم، وتجديد الفكر الديني، وإصلاح مؤسسات الدولة. والديمقراطية كلمة حق يراد بها باطل. هي مجرد ذريعة للتدخل في حياة الشعوب وإعادة توظيف الجرح الوطني من أجل الهيمنة الخارجية، وليس من أجل التحرر الوطني. هو وضع للسم في العسل، والقبض على مقدرات الشعوب بقفاز من حرير. والتجربة من الخارج تثبت ذلك مثل المعونات الأميركية وكما اتضح في صورة "الخواجة" في الأدب الشعبي.
لقد جربت قوى الهيمنة الغزو العسكري المباشر وما زالت تجرب في فلسطين والعراق وأفغانستان. كما تجرب الغزو الاقتصادي عن طريق الشركات المتعددة الجنسيات والعولمة بدعوى الاستثمار، وإيجاد فرص للعمالة، وتوفير المنتجات الاستهلاكية، والدخول إلى الأسواق العالمية. وتجرب الغزو الإعلامي عن طريق التبشير بأسلوب الحياة الأميركي، وبالنموذج الأميركي، وبالرؤية الأميركية. وأخيراً تجرب الغزو الثقافي عن طريق تبني جدول الأعمال الوطني وإعادة توظيفه لحسابها ولمصلحتها حتى تضع القوى الوطنية في حرج تاريخي. إن هي رفضت الديمقراطية فنضالها من أجلها كان كاذباً. وإن هي قبلتها فإنها تعمل لصالح قوى الهيمنة، وتنفيذاً لجدول أعمالها. ومن ثم تفقد ركائزها الوطنية ما دامت تعمل تحت المظلة الأميركية.
وفي تاريخنا المعاصر كانت الولايات المتحدة أول من أيد النظم الديكتاتورية في كل بلدان العالم الثالث، في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، عسكرية أو دينية أو مدنية، ما دامت تنفذ مصالحها وتأتمر بأمرها دون اعتبار لمصالح الشعوب. تؤيدها بالسلاح والمعلومات الاستخبارية وبخبرات الأمن من أجل تطويق القوى الوطنية والقضاء عليها وتصفيتها جسدياً. بل إنها تساعدها على التمادي في التسلط حتى تصبح طيّعة لها تماما، توجهها كيفما تشاء. فإذا حاولت إحدى هذه النظم الخروج على الطاعة من أجل البقاء في الحكم مع درجة أقل من القهر فإنها تفضحه وتهدده بخرق حقوق الإنسان، وعدد المعتقلين والمعذبين في السجون والذين تمت تصفيتهم جسدياً، وكم السرقات والتحويلات الأجنبية وتهريب ثروات الشعوب في البنوك الأجنبية، وتعاملهم مع المخابرات الأجنبية حتى تستمر الطاعة العمياء والولاء المطلق حتى تستنفد جميع الأغراض.
والأمثلة على ذلك كثيرة. الجنرال ديم في فيتنام، ونورييجا في أميركا اللاتينية، والطالبان، وشاه إيران وبعض النظم العربية التي تعاني الآن من طول نظام القهر وتأخير الإصلاح حتى بدأت جماعات المعارضة تتحول إلى العنف والسلاح بعد أن هاجرت المعارضة المدنية إلى الخارج. والأمثلة في أفريقيا كثيرة بتأييد الجنرالات ثم الانقلاب عليهم واستبدال آخرين لضمان استنزاف الثروات، والسيطرة على الشعوب.
وظهر المعيار المزدوج في الممارسات الديمقراطية. إذ يُعتبر النظام الأميركي النموذج الفريد للديمقراطية كما يقره الدستور، وإعلان الاستقلال، وحرية الصحافة، واستقلال الإعلام، ونظام المجلسين، والانتخابات الحرة، والأغلبية والأقلية، ونظام محاكمة الرؤساء وإقالتهم. أما في الخارج فتتحول الممارسات إلى أبشع صور التسلط والتلاعب بمصالح الشعوب وكأن الديمقراطية مصلحة، وحكر على الداخل دون الخارج، وقيمة أميركية وليست لباقي الشعوب التي لا تستحقها. فالقيم الأميركية قيم "براجماتية". لا تتضمن حقيقة في ذاتها، عامة وشاملة ومطلقة. بل هي قيم مصلحية، بمقدار ما تحقق من نفع شخصي. وتنقلب إلى ضدها إذا ما حققت نفعاً أقل أو سببت ضرراً. فالمنفعة هي القيمة الحاكمة لكل منظومة القيم.
إن الديمقراطية الأميركية أسطورة. مجرد شكل بلا مضمون. أغلبية وأقلية، وانتخابات فردية، ودعاية وإعلام بما لدى المرشح من إمكانيات مالية، وتبرعات فردية أو من جماعات الضغط لتنفيذ مطالبها بمجرد نجاح المرشح. وتتنصت الأحزاب بعضها على بعض كما هو الحال في قضية "ووترجيت" الشهيرة. فهي ديمقراطية الإعلام والدعاية في عصر تحول فيه الإنسان إلى بعد واحد تحت أثر الإعلام. فالحقيقة هي كيفية الإعلان عنها.
فإذا نجحت الأغلبية فإنها تفرض إرادتها على الأقلية، وتملي شروطها عليها. فإذا تحولت الأقلية إلى أغلبية، والأغلبية إلى أقلية في الانتخابات التالية يتغير القانون. ومن ثم يضيع الأساس الموضوعي للقانون وتعبيره عن المصالح العامة لمجموع الأمة دون ف