عندما يتم التشكيك وتثار التساؤلات حول مدى صدق صحافة عريقة، ذات تراث وتقاليد راسخة، مثلما هو عليه حال الصحافة البريطانية، فإنه من الضروري التأكيد على معنى وقيمة الصحافة الحرة، كمفهوم وممارسة، خاصة إذا كانت تلك الشكوك قد أثيرت من قبل دولة، لا توجد فيها مثل تلك الصحافة أصلا. كان ذلك تعليق صحيفة "الجارديان" البريطانية على طرد مراسلها أندرو ميلدرم، من زيمبابوي في مايو 2003، بسبب الانتقادات الحادة التي كان يوجهها لحكومة الرئيس روبرت موجابي هناك. وكان ذلك الصحفي، قد تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها الحكومة، فغطى حوادث التعذيب والاغتصاب والسجن، بل والاغتيالات التي تنفذها حكومة موجابي ضد معارضيها وخصومها السياسيين. وجاء على لسان الصحفي حينئذ: ربما كانت مقالاتي انتقادية وحادة إزاء الحكومة، إلا أنها لم تتناول بالسوء زيمبابوي نفسها كبلد. فكل ما فعلته، هو أنني كتبت عن حقيقة ما يجري هناك لا أكثر.
وكان أندرو ميلدرم، قد عومل معاملة المعارضين والخصوم السياسيين تماماً، فنال حظه من التعذيب والإهانة والضرب والسجن سابقاً، إلا أنهم جروه من بيته إلى سيارة كانت بانتظاره هذه المرة، ثم أهانوه وغطوا رأسه، ودفعوا به أخيرا، إلى طائرة كانت في طريقها إلى لندن. وما الكتاب الحالي الذي نعرض اليوم، سوى تدوين لسيرة 23 عاماً، أمضاها ذاك الصحفي في زيمبابوي. وقد دون المؤلف سيرته هذه، بالكثير من الوضوح الفكري عما يكتب، والمعرفة الحقة بالبلد الذي يكتب عنه، وبقدرة ملحوظة على الوصول إلى ما يريده مباشرة. كما أن هذه السيرة، لم تدون وهي خالية ومجففة من العواطف والمشاعر الإنسانية. فقد شب الكاتب وقوي عوده المهني والصحفي هناك في زيمبابوي. ومن خلال كل ذلك، أحب البلد وأحب أهله، فجاءت كتابته جياشة بالحب والمشاعر الصادقة، التي لا تهزها قسوة الحكومات وعسفها.
لدى وصوله إلى زيمبابوي لأول مرة في عام 1980، كان الانطباع السائد لديه وقتها أن زيمبابوي لا تزال دولة إفريقية تسيطر عليها الأقلية البيضاء. ولم يكن في ذلك الوقت سوى القليل جدا من مظاهر التداخل العرقي بين المواطنين هناك. ومع ذلك، فقد كان واضحاً بالنسبة له، أن زيمبابوي كانت دولة تمر بمرحلة انتقال راديكالي حاد، في المستقبل القريب المنظور. وللحقيقة فقد كانت تلك التحولات هي السبب الذي دفع به إلى هناك لتغطيتها. وإن كانت ثمة قصة يمكن تغطيتها حينئذ، فهي لا شك قصة العنف والفوضى وتبديد الأوهام، بقدر ما هي قصة للشجاعة النادرة وبعض الأمل. وبين كل هذا، كان الصحفي مهتماً برسم ممارسات المحسوبية والفساد السياسي، ومشاركة زيمبابوي في الحرب الكنغولية، وهي المشاركة التي انحدرت بكل شيء في حياة الناس اليومية، وأدت إلى تدهور القطاع الخدمي سريعاً في الداخل. كما اهتم الصحفي بتغطية أعمال العنف الممارسة ضد المزارعين البيض، ولا مبالاة الحكومة تجاه معدلات الإصابة بمرض الإيدز المتصاعدة بين المواطنين، على رغم أن تلك المعدلات كانت مخيفة، إذ تصل لواحد بين كل أربعة من المواطنين!
لكن وعلى رغم ما عرفت به حكومة موجابي من بطش ووحشية ضد خصومها، إلا أن التغطية الصحفية لتلك الأحداث لم تفقد الأمل في مستقبل زيمبابوي، بما في تلك التغطيات، الكتاب الحالي الذي بين أيدينا "حيث لدينا الأمل". أما الوجه الآخر الذي غطته التغطيات الصحفية السابقة، والكتاب أيضاً، فهو قصة الشجاعة النادرة، وعدم الرضوخ للاستبداد والغطرسة والطغيان، والقدرة على إعلاء الصوت، من قبل قادة وأعضاء "حركة التغيير من أجل الديمقراطية"، ومن قبل صحفيي "ديلي نيوز" وصحيفة " زيمبابوي إندبندنت"، وغيرهم كثير من الأفراد والمهنيين الشجعان، من أمثال مافيس ناجزانا استشاري الإيدز، الذي دفع ثمناً غالياً في صراعه مع الحكومة، ضد سياساتها التي تعمل على التعتيم والتكتم على حجم كارثة الإيدز في البلاد.
غير أن هناك جانباً آخر، لم يغفله المؤلف أثناء تغطيته وانشغاله بما كان يجري في زيمبابوي. ويتعلق هذا الجانب بحرية الكلمة، ومحاولات إخراس صوت النقد والصحافة الحرة هناك. وهو جانب يعالجه المؤلف في إطار أوسع، يلقي الضوء على محنة حرية الصحافة في زيمبابوي، ومعاناة زملائه الصحفيين فيها. ضمن ما وثق له المؤلف في هذا الجانب، أن السلطة الحاكمة كانت مباشرة وواضحة كل الوضوح، في مسلكها وموقفها إزاء حرية الصحافة. ففي مؤتمر صحفي عقد في عام 1999 في العاصمة هراري، عن حرية الصحافة، نهض صحفيون وطنيون شجعان، وأعلوا صوتهم ضد ممارسة الرقابة المفروضة على الصحافة. ولكن رد عليهم وزير الإعلام، الذي كان ناطقاً رسمياً باسم الحكومة في ذلك المؤتمر بقوله: لن تكون حرية الصحافة أمراً ذا قيمة، خلال مرحلة الانتقال التي نمر بها حالياً، إلا إن كانت أداة مساعدة في عملية البناء الوطني. وعلى الصحفيين أن يطوعوا أقلامهم للاستجابة لنداءاتها الملحة.
وفي هذا التصريح الرسمي، تكريس وتكرار، للقصة القديمة المألوفة ذاتها. فحرية الصحافة أمر جيد لا شك فيه على الم