لم ينتهِ الجدل حول التدخل العسكري لأغراض إنسانية، بل ظل من أكثر القضايا إثارة للخلاف في العلاقات الدولية طوال حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة، فحمي النقاش حول التدخل الذي جرى في الصومال والبوسنة وكوسوفا وشمال العراق، وعدم القيام به في رواندا ما فتئت تتجدد من حين لآخر. وقد برز مفهوم التدخل كجزء من اهتمامات "النظام العالمي الجديد" و"رهاناته" في الدفاع عن حقوق الإنسان وحماية الأقليات، ووقف الجرائم ضد الإنسانية وتأمين الإغاثة الإنسانية لجموع السكان المنكوبين. وهو الموضوع الذي تناولته دراسة صادرة مؤخراً عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بعنوان "مسؤولية الحماية وأزمة العمل الإنساني"، وفيها يناقش كل من "جاريث إيفنز" ومحمد سحنون و"ديفيد ريف"، الظروف والشروط المرتبطة بحق التدخل الإنساني وكيف ومتى تجب ممارسته وتحت أية سلطة، والعلاقة بين التدخل العسكري وحقوق الإنسان.
وتطرح الدراسة مقاربة لقضية "التدخل الإنساني" مفادها الدعوة إلى إعادة صياغتها بحيث يتمركز النقاش حول "مسؤولية الحماية" وليس "الحق في التدخل"، ويقصد بالأخيرة أن الدول ذات السيادة تتحمل مسؤولية حماية مواطنيها من الكوارث التي يمكن تجنبها، كالقتل الجماعي والاغتصاب المنظم والمجاعة الهائلة، لكن عندما تكون هذه الدول غير راغبة في القيام بمسؤوليتها في الحماية أو غير قادرة على ذلك أو إذا كانت هي نفسها الجانية، فإنه يقع حينئذ على المجتمع الدولي واجب تحمل المسؤولية.
لكن هل تغيير المصطلح من "التدخل" إلى "الحماية" ينفي شبهة الانتهاك لسيادة الدول في علميات التدخل على أراضيها؟ إن ما تؤكده هذه المقاربة المفاهيمية الجديدة، هو التحول في النظر إلى جوهر السيادة من السيطرة إلى المسؤولية، ذلك أن مفهوم السيادة كما وضعته معاهدة "وستفاليا" المبرمة عام 1684 وأقره ميثاق منظمة الأمم المتحدة الموقع في عام 1946، بات يتعرض إلى تآكلات شديدة بسبب ثقافة حقوق الإنسان، والمساءلة الوطنية والدولية، وتعزز مفهوم الأمن الإنساني كأولوية متقدمة على أمن الدولة. وأصبح المفهوم الجديد لسيادة الدولة ينطوي على مسؤولية مزدوجة: مسؤوليتها على الصعيد الخارجي في احترام سيادة الدول الأخرى، ومسؤولياتها الداخلية لجهة احترام كرامة مواطنيها وحقوقهم الأساسية.
وتحدد الدراسة مفهوم الحماية الإنسانية بالقول إنها تعني واجب القيام برد فعل إزاء المواقف التي توجد فيها ضرورة قاهرة لحماية الناس، أي إذا فشلت التدابير الوقائية لحل مثل هذا الموقف أو احتوائه وكانت الدولة المعنية بذلك عاجزة أو غير قادرة أو غير مستعدة للتدخل، فحينها ربما يتطلب الأمر تدخلا من قبل دولة أخرى أو من قبل المجتمع الدولي.
وتوضح الدراسة أنه لتبرير التدخل العسكري في دولة ذات سيادة يجب الوفاء بشروط مثل حد "القضية العادلة" أو الدوافع المشروعة للتدخل، و"التفويض الصحيح" من جانب المجتمع الدولي، إضافة إلى أربعة مبادئ احترازية هي:"القصد الصحيح" للتدخل، و"الملاذ الأخير" الذي يعني استنفاد كل البدائل غير العسكرية، و"الوسائل المناسبة" التي تحدد حجم التدخل العسكري ومدته وشدته، وأخيرا "الاحتمالات المعقولة" وهي وجود فرصة مقدرة للنجاح في وقف المعاناة التي بررت التدخل.
وإذا كانت الدراسة ترى أنه ليس من المطلوب حالياً إيجاد بديل لمجلس الأمن كمصدر للتفويض، فهي تشير إلى دوره غير المرضي وغير المنصف على نحو عام بسبب انعدام التمثيل في عضويته وبسبب معاييره المزدوجة المتأصلة في سلطة النقض "الفيتو" الممنوحة لخمسة أعضاء دائمين في المجلس فقط.
ويبقى أنه من مسؤولية المجتمع الدولي ككل ألا تتكرر أخطاء تسعينيات القرن العشرين عند ما يحين أوان الحالة التالية من التهديد بالقتل الجماعي أو التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية.
كذلك تتطرق الدراسة إلى موضوع متصل هو أعمال المساعدات والإغاثة أو العمل الإنساني، مشيرة إلى الجدل الدائر حول أهداف العمل الإنساني وعلاقته بجهود تعزيز حقوق الإنسان وإحلال السلام ورعاية التنمية. فالمنظمات غير الربحية ومنظمات الأمم المتحدة التي واجهت مصاعب كبيرة عندما عبر مليونا شخص من "رواندا" إلى زائير في عام 1994 أو حينما تم ترحيل 800 ألف شخص من ألبان كوسوفا قسراً بواسطة القوة الصربية في عام 1999 تشعر بالإحباط نتيجة للصعوبات الهائلة التي تواجه عملها الإنساني، وباتت على قناعة بأن عملية تقديم العون يجب أن تصبح سياسية بقدر كبير إذا أريد لها أن تصبح فاعلة ومجدية بشكل أكبر، بمعنى أنه يجب تمكين جماعات الإغاثة من أجل زيادة قدراتها في مجال فرض الالتزام بحقوق الإنسان وحل النزاعات وبناء السلام. وكما توضح الدراسة فإن ذلك التقييم نابع من النزعة الرامية منذ نهاية القرن الماضي إلى وضع العمل الإنساني في سياق القانون الإنساني الدولي باعتبار أنه لا انفصام بين الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعتبر إنكار أي منها إهانة للكرامة الإنسانية. لكن المع