تحتلّ العلاقات والانقسامات الأوروبية-الأميركية منذ نحو 5 عقود مساحة واسعة من النقاش والمداولات على طرفي الأطلسي. وحول هذا الموضوع وما يتفرع عنه، قدّم اثنان من الباحثين كتاباً قيّماً بعنوان "حلفاء في الحرب"، وهو عمل استند إلى خبرتهما الواسعة الأكاديمية والعملية بهذا المجال. "فيليب غوردون" هو زميل أول لقسم دراسات السياسة الخارجية في معهد "بروكينغز"، ومدير سابق لشؤون أوروبا في مجلس الأمن القومي الأميركي، وهو حاصل على درجتي الدكتوراه والماجستير في الدراسات الأوروبية والاقتصاد الدولي من جامعة "جونز هوبكينز. أما "جيريمي شابيرو" فهو زميل باحث لدى القسم نفسه في معهد "بروكينغز"، وهو أيضاً محلل سابق للسياسة الدولية لدى مؤسسة "راند"، وصاحب خبرة كذلك في السياسات الأميركية الداخلية والتخطيط الاستراتيجي العالمي وقضايا الأمن. ولهذا فمن الطبيعي أن يضم الكتاب مادة توثيقية وتحليلية غنية حول موضوع العلاقات بين العملاقين المتربعين على ضفتي الأطلسي وفي أعلى سلّم القوى في العالم، وهي مادة تجعل من الكتاب مرجعاً يرى الكثيرون أنه الأشمل والأعمق حتى الآن. وكما هو متوقع، يشكّل موضوع العراق محوراً مركزياً في الكتاب الذي أخذ عنواناً فرعياً هو "أميركا، أوروبا والأزمة حول العراق"، والذي أتت أجزاؤه الثلاثة مرتبة ومسماة بحسب الخط الزمني لهذه الأزمة. الجزء الأول بعنوان "الحلف قبل العراق" ومؤلف من فصلين، والثاني "الأزمة العراقية" (4 فصول)، والثالث "ماذا بعد؟" وفيه فصل واحد.
ويعلن المؤلفان بدءاً من مقدمة الكتاب عدم اتفاقهما مع الرأي القائل إن الولايات المتحدة وأوروبا تسيران في طريق الانشقاق المحتم بحيث سيكون على الأميركيين التصرف وحدهم. ففي أعقاب 11 سبتمبر "فاجأ الأميركيون والأوروبيون بعضهم بعضاً بطرق إيجابية... وعبّر الزعماء الأوروبيون عن تضامنهم غير المحدود مع الولايات المتحدة". ويعبّر المؤلفان عن الدهشة من عدم إدراك الحليفين، في أثناء التحرّكات الدبلوماسية حول العراق، لأهمية الحلف ولمخاطر أزمة العراق على مستقبلهما، باعتبار أن حلف شمال الأطلسي هو الحلف الأنجح والأهم في تاريخ العالم، حتى بعد نهاية الحرب الباردة. لكن إدارة بوش ليست هي وحدها الملومة عن الانشقاق، إذ يقول الكتاب إن الدول الأوروبية- وفرنسا وألمانيا بالذات- ساعدت على تحويل الجدل المشروع حول الحكمة من غزو العراق إلى أزمة هددت وجود الحلف ذاته، وذلك بامتناعها عن تطبيق القرارات التي صوّتت تأييداً لها في مجلس الأمن.
لكن الانشقاق الأوروبي- الأميركي ليس فقط قابلاً للإصلاح، على حد قول المؤلّفَين، بل هو أمر جوهري تقتضيه المصالح المشتركة الضخمة في مسائل مشتركة كثيرة منها طبعاً الحرب على "الإرهاب"، والتجارة، وظاهرة الإحماء العالمي، وأسلحة التدمير الشامل، وهو إصلاح يتطلب في رأيهما وجود رجال دولة يدركون جيداً أهمية وقيمة الحلف.
والأهم هنا أن المؤلفين لا يعتبران أحداث 11 سبتمبر مسؤولة عن حدوث فجوات بين الأوروبيين والأميركيين في الآراء حول التهديد الماثل، بل يريان أنها وسّعت خلافات قائمة. فقد كان من المحتم أن يؤدي وقوع هجمات بتلك الضخامة على التراب الأميركي إلى تغيير في السياسة الأميركية وفي الصورة الذاتية الأميركية، والأهم، أنه سيؤدي إلى تغيير جوهر تعريف الأمن القومي الأميركي والمصلحة القومية. ولذا بات من غير الممكن تفسير أية تطورات لاحقة في السياسة الخارجية دون الإشارة إلى أحداث ذلك اليوم الذي اتسع نطاق تأثيره ليشمل العالم كله.
ويلقي المؤلفان باللوم على الرئيس الفرنسي جاك شيراك بسبب وضع الكثير من العوائق أمام المسيرة إلى حرب العراق، لكنهما يؤكدان أيضاً أنه ربما كان لديه شعور صادق بأن غزو العراق مسألة غير مدعومة بالمبررات، وأنه ربما كان محقاً، لكن هذا في رأيهما لا يعني ضمناً أن شيراك لم يكن أمامه سبيل آخر غير رفع مستوى التحدي الذي أعلنه إلى مستوى كان سبباً لتهديد حلف شمال الأطلسي. ويرى المؤلفان أن فرنسا كان في وسعها أن تقف على الحياد فلا تجاهر بمعارضة الحرب ولا بتأييدها، وهو ما يعني اعترافاً منها بما يوافق عليه الزعماء الأوروبيون منذ زمن بعيد، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة تلعب دوراً خاصاً في الاستقرار العالمي، وهو ما يخولها الحصول على امتيازات خاصة تتيح لها القيام بذلك الدّور.
ومن الطبيعي أن يقدّم المؤلفان في كتابهما هذا عرضاً شاملاً لتاريخ الحلف الأقوى في تاريخ العالم، ولظروف نشأته ووقائع تطوّره منذ الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الضروري لوضع الأزمة الحالية التي تعتري العلاقات الأميركية-الأوروبية في سياقها الصحيح. ويقدّم المؤلفان في موازاة ذلك وصفاً موضوعياً لنشأة الخلاف بين العملاقين، ويتوسعان في تقصي بدايات الخلافات الأيديولوجية بين العملاقين التي بدأت بالظهور على مسرح العلاقات عند نهاية الحرب الباردة وانهيار الشيوعية والإمبراطورية السوفييتية التي كانت محوراً جمع حوله الأميركيين والأ