"سيكون حكم التاريخ قاسياً جداً علينا، إن لم نوظف كل ما لدينا الآن من طاقات ومصادر في حربنا مع الإيدز. ولن يغمض لي جفن أو يهدأ لي بال، إلا بعد أن تطمئن نفسي إلى أن إرادة العالم واستجابته قادرة يوماً ما على وقف مد هذا الوباء". هذه كانت كلمات الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا في مؤتمر الإيدز الدولي الخامس عشر الذي عقد منتصف هذا الشهر في العاصمة التايلاندية بانكوك. وقبل هذا المؤتمر ببضعة أيام، وفي تصرف غير مسبوق، خرج رئيس الوزراء الصيني "ون جيابو" على العالم بتصريح، اعترف فيه بأن الإيدز قد وصل إلى جميع طبقات المجتمع الصيني بدون استثناء، ودعا فيه كلاً من أفراد الحكومة والشعب الصينيين إلى التكاتف في مواجهة هذا الوباء. فالإحصائيات الرسمية تشير إلى وجود أكثر من 800 ألف حالة إصابة بالإيدز بين الصينيين، وهو الرقم الذي يعتقد الخبراء أنه أقل بكثير من الواقع الحقيقي. بينما حذرت الأمم المتحدة من أن عدد المصابين بالإيدز في الصين قد يتخطى حاجز العشرة ملايين شخص، خلال الأعوام الستة القادمة فقط. أما في الهند، ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، فيعاني شعبها من واحد من أكثر معدلات انتشار العدوى، إلى درجة أصبح معها خمسة ملايين هندي مصابين بالفيروس. وهذا الوضع دفع الحكومة الهندية مؤخراً لبدء أكبر مبادرة في التاريخ لمكافحة الإيدز، وهي المبادرة التي بدأت تتعثر كسابقاتها بسبب العادات والتقاليد. فالشعب الهندي، مثله في ذلك مثل الكثير من الشعوب الشرقية الأخرى، يجد حرجاً في التحدث عن ومناقشة الأمراض الجنسية كالإيدز أو غيره، بينما يعتبر الحديث في الجنس بوجه عام من المحرمات الاجتماعية.
رغم أن موضوع تاريخ الجنس، وسبب اختلاف الشعوب والحضارات في التعامل معه، هو موضوع بالغ التعقيد ويحتاج إلى عدة رسائل دكتوراه لشرحه وتفصيله، إلا أن هذا الاختلاف تظهر آثاره في وقتنا الحالي بشكل جلي فيما يتعلق بالتثقيف الجنسي. وقبل أن نستطرد في الاختلاف البيِّن بين التثقيف الجنسي في الشرق والغرب، وآثاره على الوضع الصحي الحالي لتلك المجتمعات، يجب أن نتفق أولا على مفهوم موحد له. فكثيراً ما يستخدم هذا المصطلح بشكل ضيِّق، ليعبر عن تعليم الأبناء مبادئ الطب الإنجابي، بداية بتشريح الجهاز التناسلي لدى الرجل والمرأة، مروراً بكيفية إخصاب الحيوانات المنوية للبويضات، ونهاية بالحمل والولادة. أما المفهوم الأوسع لهذا المصطلح، فيشتمل على كل ما سبق، بالإضافة إلى الأمراض الجنسية وطرق انتقالها وكيفية ممارسة الجنس الآمن. هذا المفهوم الأوسع يعاني من تضييق الخناق عليه في المجتمعات الشرقية وخصوصاً الإسلامية منها، بناء على أن الأمراض الجنسية تنتقل من العلاقات غير الشرعية، وبما أن هذه العلاقات لا يفترض أن تحدث وتحرم تحريماً تاماً، فليس من الضروري الحديث والتثقيف في تلك الأمور على أساس أنها لن أو لا تحدث من الأساس! هذا الوضع يذكرني بالنعامة وقصة دفن رأسها في الرمال لتفادي الخطر. فالأمراض الجنسية واقع طبي يومي، وظاهرة عالمية لا يخلو منها بلد أو شعب. وللأسف لم تتوفر لدي المعلومات الكافية عن الوضع العالمي للأمراض الجنسية، بسبب قيام منظمة الصحة حالياً بتحديث تقريرها عن هذا الموضوع. أما في الدول العربية، فحدِّث ولا حرج، حيث تظل الأرقام المتعلقة بمدى انتشار الأمراض الجنسية بين مواطنيها حبيسة الأدراج، بسب ما سيسببه نشرها من (عار وطني). ولكن يمكننا أن نسترجع بعض الإحصائيات من الدول التي تنشرها. ففي بريطانيا بلغ عدد حالات الأمراض الجنسية الإجمالية التي تم تشخيصها في عام 2003 فقط بين البريطانيين أكثر من 700 ألف حالة. فمثلا زادت حالات الإصابة بالكلاميديا (Chlamydia) –أحد أنواع الأمراض الجنسية- بمقدار 140% خلال الست سنوات الأخيرة فقط، بينما زادت حالات الإصابة بالزهري (Syphilis) بمقدار 28% خلال عام واحد!
هذا الحديث عن الكلاميديا والزهري يجرنا إلى حقيقة مؤسفة، هي أن الأمراض الجنسية –ما عدا الإيدز- خرجت من دائرة الضوء الإعلامي والوعي الشعبي العام، بحيث أصبح الجهل بها وبأساسياتها هو الصفة العامة. أما طبياً فتقسم الأمراض الجنسية حسب نوع الجراثيم والميكروبات المسببة لها. فهناك المجموعة البكتيرية، مثل الزهري والسيلان والكلاميديا وغيرها الكثير. وهناك المجموعة الفيروسية، مثل الإيدز والهربس والتهاب الكبد الفيروسي (B) و (D)، وغيرها الكثير. وهناك المجموعة الحشرية مثل القمل والجرب، والمجموعة الطفيلية مثل الأميبا والجارديا وغيرهما. هذه الأمراض تنتشر انتشاراً واسعاً خصوصاً بين النساء الساقطات، ولذا يخطئ من يعتقد أنه إذا ما مارس الجنس بطريق غير شرعي، ولم يصب بالإيدز، فقد مر الأمر بسلام. فبعض هذه الأمراض لا تظهر لها علامات مرضية مثل الكلاميديا، والتي قد تتسبب في العقم وخصوصاً بين النساء دون أن تدرك المريضة إصابتها بالمرض من الأساس.
إن هذا التنوع الشديد في الأمراض الجنسية، والجهل العام بها وبطرق الوقاية منها، دفعا