ما هي طبيعة العلاقة بين الإنسان المنتج والمستهلك لإنتاج الآخرين؟ سؤال طرحته على نفسي في البداية لمحاولة معرفة الأوضاع الحالية لمستقبل هذه المجتمعات التي تعيش على ما يسمى بدولة الرفاه، أو دولة الخدمات؟. وإلى متى ستستمر في تقديم هذه الخدمات، وخلق إنسان يعتمد على قطرات المطر، ووضعه المتميز كإنسان يحمل الأختام، ولديه صكوك الغفران، تلك التي تدر عليه الآلاف أو ربما الملايين من دون أن يبذل أي مجهود أو حتى يتحرك من مكانه. هذا الإنسان يعتقد أن الملعقة الذهبية ستدر عليه المكاسب دون أن يتحرك من مكانه، ولكن إلى متى؟! الكل يعلم، إلا ذلك الكسول الذي ما يزال يعيش في مرحلة لا يريد أن يرى فيها أن كل ما على الأرض يتطور ويتغير وأن العالم كله في سباق مع الزمن لإنجاز التقدم والارتقاء العلمي.
بالأمس تذكرت أن الإنسان في الخليج أو بالأصح في أجزاء منه ما يزال يعيش في مرحلة الاكتفاء بنيل الحقوق، ودون النظر إلى الواجبات. ذلك المخلوق ما يزال يبحث عن الراحة والاطمئنان للعيش في رغد، في الوقت الذي يبذل قرينه في الدول المجاورة مجهوداً جباراً لإيجاد فرصة عمل. فهو يمارس دور الغواص في أعماق الخليج لإيجاد لؤلؤة، تساهم في سداد ديونه وتوفير الحد الأدنى للحياة الكريمة. هو ذلك النهام الذي ينشد للبحارة لشد عزائمهم لتحمل الصعاب من أجل استمرار الإنتاج والإبداع، ولتأكيد قيم العمل والمثابرة، وهو ذلك الإنسان الذي يعمل بجد وإخلاص لترويج بضاعة الغوص لدى الغير، وهو يقوم بدور العارض للمنتج من أعماق الخليج لأولئك الذين يريدون استهلاكه. المستهلكة، تتفاخر أمام الأخريات بأنها تمتلك شيئاً من الصعب الحصول عليه إلا من أعماق البحار، حيث المغامرة وركوب المخاطر. فالغوص في الأعماق يحمل في طياته الحياة والموت، وكم من غواص ابتلعته تلك الأعماق وهو يحمل في يده لؤلؤة كان يحلم بأنها ستحمل السعادة له ولأفراد أسرته، ولم يبق لأبنائه سوى أن يتابعوا المسيرة في الغوص من جديد.
من المؤكد أن هذه الصورة لإنسان ما قبل النفط والاستهلاك، تزعج مجاميع كبيرة من الناس وخاصة أولئك الذين عاشوا على أكتاف أصحاب الغوص والنهمة، ممن عرفوا كيف تؤكل الكتف وكيف يتم قتل طموح ذلك الغواص. إنها حكاية المنتج والانتهازية الاقتصادية التي لا ترغب أن تسمع صوت من يقول إن الإنسان في الخليج هو منتج ومبدع ولا يمكن أن يكون إلا كذلك.
ولقد أدركت القيادات التاريخية لهذه المنطقة سواء من النخب الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية ذلك. فهي التي خلقت العناصر القيادية التي ساهمت في تطوير حياة المجتمع، وحين ذاك كان الإنجاز والتقدم. إلا أنه في المقابل برزت ملامح زمن الرويبضة والتي جعلت من أناس هم أبعد ما يكونون عن امتلاك مقومات القيادة أو الإنجاز للتحكم بمصائر أهم المؤسسات، فكان أن ساهمت في خلق الفجوة بين القيادة والقاعدة، فلا هي قدمت خدمات لتطوير ذلك الغواص الكادح ولا هي خدمت من وضع الثقة بها، وهي بذلك لا تمتلك أخلاقيات المهنة، أو أخلاقية القيم التقليدية لمجتمع ما قبل الطفرة النفطية. لقد ساهمت تلك الفئة الجاهلة عملياً في تدمير تطور المؤسسات التي تعد الإنسان لغد، مشرق، لأنها للأسف لا تحمل مؤهلات المؤسسين الأوائل من الآباء، قيم الحق والعمل والتضحية. فهم (أي الجيل الجديد) إرهابيون إصلاحيون، ديمقراطيون، مستقبليون أو يعيشون في كهوف الجهل. إنهم يعملون أي شيء إلا العمل بضمير. والمصيبة أنهم يتعاملون مع البشر من ثقافات عديدة، فهم بذلك يهدمون ما تقوم به القيادة السياسية لخلق ناس مؤهلين لامتلاك ناصية القرن الجديد.
أولئك ليسوا راشدين ولا هم الوجه الحقيقي لهذا المجتمع. إلا أن الكارثة أن من أعطوهم الثقة لم يدركوا حتى الآن أن الجهلة يهدمون صورتنا أمام الآخر وأمام أنفسنا. إنهم يدمرون روح الإبداع والانطلاقة في المجتمع، يريدون أن يربطوا أقدام الناس بكتل الحديد كما عبيد روما حتى لا يستطيعوا التقدم والانطلاق. إنهم يجعلونهم يعيشون أمام ثوابت من المحرمات لا يريدون أن يحيدوا عنها قيد أنملة، وبعصا غليظة يهددون كل من يعارض جمودهم. إنهم لا يريدون أن يعرفوا أن تعامل الناس، فيما بينهم لم يعد ممكناً على أسس قيم ومفاهيم القرن الثامن العشر، كل شيء يتقدم والناس لم يعودوا يحتملون هذا الجمود والجهل، بل يريدون التحرك نحو البناء، وشتان بين من يبني وبين من يهدم. وكما كان يقال سابقاً من السهل الهدم إلا أن البناء هو الأصعب.