التردي الحالي الذي يشهده الأداء الفلسطيني حيث الصراع على المناصب، والفساد، والفوضى، وتبعثر البوصلة الوطنية وغير ذلك كثير، يؤكد، للمفارقة، مقولة شهيرة لـ"أبو مازن" مهندس أوسلو كان قد أطلقها عشية التوقيع على الاتفاق سنة 1993. آنذاك، قال أبو مازن إن الاتفاق قد يقود إلى دولة فلسطينية أو إلى الكارثة، وذلك تبعاً للأداء الفلسطيني. نحن الآن في وجه الكارثة، وأبو مازن كان متفائلا بالطبع لأنه نسي الأداء الإسرائيلي وافترض أن الإسرائيليين جادون في مسألة السلام. وكان متفائلا لأن الاتفاق ذاته حمل جنين الفشل في أحشائه ساعة وقع، لأكثر من سبب قيلت ونوقشت في السنوات الماضية ألف مرة. المهم أننا صرنا نعرف جميعاً، ولا حاجة للتكرار، أن سنوات أوسلو المديدة ضاعفت الاستيطان في الضفة والقطاع، وزادت من تهويد القدس، وشرذمت الأرض الفلسطينية بما يقضي على أية احتمالات لقيام دولة متواصلة وذات معنى، وقللت من احتمالات تطبيق حق العودة، وواصلت إهانة وإذلال الفلسطينيين ودفعهم إلى حواف اليأس وتبني كل وسائل المقاومة والرفض.
لم يبلع الشعب الفلسطيني مرارة أوسلو إلا بترياق الشرعية الثورية والتمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والكاريزما الوطنية لياسرعرفات. تسامح الفلسطينيون مع أوسلو ليس اقتناعاً به، لكن انصياعا لإرادة "الأخ القائد" الذي عرفت إسرائيل والولايات المتحدة أنه الوحيد الذي يمكنه التوقيع على اتفاق مثل أوسلو وامتصاص الرفض الذي سينتج عنه وبسببه، فلسطينيا وعربياً. اعتاش أوسلو على الرأسمال النضالي والتاريخي للوطنية الفلسطينية، "العرفاتية" تحديدا. خلال المرحلة الانتقالية تآكل رأس المال ذاك، لكن السلطة المتولدة من رحم أوسلو كانت تقامر على استعادة رأس المال الوطني والنضالي بعد الانتقال إلى مرحلة مفاوضات الحل الدائم عقب مرور خمس سنوات من المرحلة الانتقالية التي خسرت فيها كثيراً.
بالتوازي مع التآكل التدريجي للشرعية الفلسطينية على إيقاع الفشل المتراكم لأوسلو كانت خريطة القوى السياسية الفلسطينية والشرعيات المتصاعدة تتغير باستمرار. فخلال العشر سنوات الماضية انقضى بريق القيادة التاريخية التي جاءت من الخارج محملة بالرموز الوطنية والرومانسية الثورية. ومقابل التردي المستمر والانحدار الحاد لبريق القيادات التاريخية الخارجية، وعلى حاملة الانتفاضة الأولى ثم الثانية برزت قيادات الداخل. اتصفت هذه القيادات بالالتصاق بالواقع الشعبي والمخيماتي والانتماء الطبيعي له، على تفارق بارز مع خيلاء وممارسة القيادة القادمة من الخارج– كل ذلك في المربع الفتحاوي والفصائلي التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. إلا أن التغير الفتحاوي لم يكن سوى جزء من الصورة. فلا يقل أهمية عنه، إن لم يجاوزه إثارة، كان التصاعد المتنامي والبارز للتيار الإسلامي متمثلاً بحماس والجهاد الإسلامي، والذي راكم رأسمال وطنيا ونضاليا وسلوكيا منذ الانتفاضة الأولى ظل يتسع أفقيا ورأسيا على حساب منظمة التحرير وسلطتها الفلسطينية الأوسلوية.
وخلال السنوات الأربع الماضية من الانتفاضة الثانية لم تهدأ آليات تفتت الشرعيات الفلسطينية التقليدية وتصاعد شرعيات بديلة، وهي آليات شلت أفق العمل السياسي والعسكري معاً. فلا العمل السياسي، التسووي الأوسلوي، تتابع وراكم نجاحات تدعم الشرعية الفلسطينية "العرفاتية"، ولا العمل العسكري ذو الشرعية "الحماسية" المنافسة أنسجم في استراتيجية سياسية لها أفق واضح. لكن ظلت الخسارة تبرز في صف الشرعية الفلسطينية متمثلة في السلطة، لأنها ببساطة العنوان الرسمي للمشروع الوطني الفلسطيني. ففي قلب الهيكل التنظيمي الذي ترتكز عليه هذه الشرعية بلغ التشتت ذراه حيث ما عاد الصف الفتحاوي موحداً، بل انقسم بين فتح والسلطة، ثم انقسمت فتح نفسها بين فتح الحرس القديم وفتح كتائب الأقصى، وأصبحت فتح أجنحة تدور في أفلاك قيادات متنافسة، لا يدري كل جناح منها إن كان يؤيد السلطة أو يؤيد الانتفاضة، أو إن كان يخدم الاثنتين أم يضرهما معاً.
الأطراف الخارجية، إسرائيل والولايات المتحدة، لم تكن واقفة وتتفرج، بل اتبعت سياسة تحطيم الشرعية الفلسطينية وإضعاف أية قيادة جماعية مما ساعد أيضاً على خلق فراغ سياسي تذرعت إسرائيل بسببه بالإيغال في سياسات انفرادية بدعوى غياب "الشريك".
الخراب الكبير الذي لحق بشرعية السلطة الفلسطينية وطنيا وأخلاقياً وسياسياً ودولياً لا يمكن إصلاحه. فعندما يخسر الشعب الفلسطيني أنصاره في العالم، وتتحول الأمم المتحدة وممثلوها إلى ناقدين للطرف الفلسطيني بسبب فساده، وعندما يقسو سولانا والاتحاد الأوروبي الأقرب لنا على السلطة فإن ذلك يمثل ذروة من ذرى فشلنا الدبلوماسي والدولي. والأهم من ذلك كله هو أن السلطة الفلسطينية التي قامت على أساس أوسلو لم يعد لها أساس قانوني وقد فشلت في تقريب الحلم الفلسطيني بإنجاز الحد الأدنى من الحقوق. كما أنها أصبحت مضرة بالقضية الفلسطينية برمتها، إذ أراحت إسرائيل، القوة الاحتلالية المغتصبة، من