في المملكة المتحدة التي ما تزال الانقسامات العميقة تعتريها حول حرب العراق، تمّ حتى الآن إجراء أربعة تحقيقات في هذا الشأن. وفي يوم 14 من يوليو الجاري، تمّ نشر التقرير الأخير والأكثر أهمية على الإطلاق. وكان رئيس اللجنة التي أعدت التقرير هو اللورد "باتلر"، وهو سكرتير سابق لمجلس الوزراء البريطاني ويحظى بقدر كبير من الاحترام.
وعلى رغم أن عدداً كبيراً من التحقيقات قد أُجري في السنوات السبع التي تندرج ضمن فترة تولّي "توني بلير" منصب رئيس الوزراء- كما هي حال التحقيقات الأربعة التي أُجريت بعد تفشي وباء الحمى القلاعية التي ألحقت أضراراً جسيمة بقطاع الزراعة في بريطانيا- بقيت مرجعيات هذه التقارير الأخيرة محدودة بشكل صارم. وقد تم تكليف اللورد "باتلر" بمهمة التحقيق في الخلفية الاستخباراتية. ورفض أعضاء الحزب الديمقراطي الليبرالي المشاركة في التحقيق وذلك على أساس أن وقائع الحالة الموضوعية فيه ضيقة، وأنه يحتاج إلى النظر في عمق الأحكام السياسية التي أدت إلى الحرب.
وفي غضون ذلك، أنتج اللورد "باتلر" تقريراً مذهلاً ومثيراً للإعجاب بلغة نثرية مصقولة مستخدمة في دوائر الخدمة المدنية. والأسلوب المتحفظ والمهذب يعطي أهمية أكبر للانتقادات الشديدة التي وجهها التقرير إلى حكومة "بلير". ولذا سيكون التقرير في السنوات القادمة مصدراً ثرياً للمعلومات حول الحرب العراقية.
وقدمت مجلة "تايمز"، في افتتاحية عددها الصادر يوم 15 يوليو الجاري، ملخصاً محكماً للنتائج الرئيسية التي توصل إليها تقرير "باتلر"، وفيه قالت "كل ما كان من الممكن أن يسير على نحو خطأ قد سار فعلاً على نحو خطأ...والعملاء الذين اعتمدت عليهم شعبة MI6 (أي شعبة الاستخبارات الخارجية) كانوا أشخاصاً ليس من الممكن التعويل عليهم، وكانت المعلومات التي قدّموها قد جرى تقييمها بطريقة سيئة من قِبل لجنة الاستخبارات المشتركة؛ أمّا التحذيرات التي بقيت في تقييمات لجنة الاستخبارات المشتركة فإنها تعرّضت لعملية طلاء في ملف الحكومة المنشور. وبكلمات أخرى، يعني ذلك أن المعلومات الاستخباراتية قد تمّ تصديقها بسرعة وسذاجة ثم تمريرها إلى الجمهور..."
وباختصار أقول إننا أُعطينا معلومات استخباراتية مصابة بالنواقص ومغطاة بتلفيق سياسي. والأمر الاستثنائي إلى أبعد حد هو أن "توني بلير" لم يخدم في السابق على الإطلاق في أية حكومة أو مجلس وزراء قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، إضافة إلى أن منهجه الذي يقتضي إدارة الحكومة بأسلوب رئاسي كان لفترة طويلة يُنظر إليه بذعر. ويعلّق اللورد "باتلر" على هذا الأسلوب بطريقة جافة فيقول إنه أسلوب "قلّل من دعم آلية الحكومة للمسؤولية الجماعية التي يتحمّلها مجلس الوزراء". ويكره اللورد "باتلر" على وجه الخصوص "الاجتماعات المتكررة لكن غير المحضّرة سلفاً"- والتي وصفتها الصحافة بأنها "حكومة الأريكة"- وقد وجد أن إهمال الأوراق الرسمية على نحو مسبق هو أمر "يثير القلق".
وأطلق الكاتب الصحفي المخضرم "سايمون جينكينز" التعليق الماكر التالي وفيه يقول:"يكاد لا يكون هناك سفير أو جنرال واحد له رأي حسن في العراق، وفي هذا استياءٌ لا يمكن للسيد بلير أن يعالجه إلاّ باللجوء إلى مخبئه المحصن تحت الأرض. واللجوء إلى المخبأ أدى إلى مزيد من فساد المعلومات الاستخباراتية التي شعر أنها تحتاج إلى كسب ثقة الجمهور والدعم القانوني".
وفي مجلس العموم، تحمّل السيد "بلير" المسؤولية الكاملة عن "الأخطاء" التي تمّ تركيز الانتباه عليها في التقرير، وقال:"إنني أقبل بتحمّل المسؤولية الشخصية الكاملة عن الطريقة التي تم بها عرض المسألة وبالتالي عن أية أخطاء تم ارتكابها".
وأنا شخصياً لا يساورني شك في أن "توني بلير" قرر، من حيث المبدأ، أن يؤيد حكومة الرئيس "جورج بوش"، في اقتراحها التخلص من صدّام حسين، قبل أشهر كثيرة سبقت غزو العراق. وقد أدرك رئيس الوزراء البريطاني آنذاك أنه، إذا التزم بالنص الحرفي للتقرير الاستخباراتي المقدّم، فإنه لن يكسب بسهولة التأييد البرلماني والعام لشن الحرب. ولذا كان لابد من وجود تهديد يحدق ببريطانيا وبمصالحها، وهكذا تجاهل "بلير" كل التحذيرات والتوضيحات المعقولة التي قدمتها الدوائر الأمنية وكنتيجة لذلك وضع بيضاً أكثر من اللازم في الحلوى.
لكن اللورد "باتلر" وهو الموظّف الكبير المجرِّب والمختبر قال إنه لم يجد "دليلاً يوجب التشكيك في حسن نوايا رئيس الوزراء". وفي الواقع أننا كنا نعلم قبل تحقيق "باتلر" أن المملكة المتحدة قد ذهبت إلى حرب لا تحظى بتأييد شعبي وذلك استناداً إلى أساس كاذب، كما كنا نعلم أن عشرات الألوف من البشر ماتوا وأصيب عدد أكبر بكثير من ذلك بعاهات مستديمة مدى الحياة. وأعتقد أن "توني بلير" كان ينبغي أن يستقيل من منصبه منذ أشهر مضت. فالضرر الحاصل من جراء الحرب في العراق سيبقى طوال سنوات تجربة ماثلة في المنطقة وفي مناطق أبعد منها.
واللورد "باتلر"، الذي ضم فريقه عضواً في البرلمان من حزب العمال وعضواً آخر