ليس أطفال المدارس هم الذين ينبغي عليهم وحدهم أن يتعلموا الكثير من التقرير الانتقادي المؤلف من 500 صفحة الذي أصدرته في الآونة الأخيرة اللجنة التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي حول إخفاقات وكالة الاستخبارات المركزية الـ"سي آي إيه". فبعض الدروس التي يضمها التقرير، والتي تتعلق بالرؤساء من جهة اتخاذهم قرارات بشأن خوض الحروب، إنما هي دروس تنطبق أيضاً على الأطباء الذين يريدون اتخاذ قرار بشأن إجراء أو عدم إجراء عملية جراحية لمريض ما، كما تنطبق على المديرين التنفيذيين الذين يريدون اتخاذ قرارات بشأن طرح مُنتج جديد في الأسواق، وكذلك على أطفال المدارس الذين من المفترض أنهم يتعلمون التفكير.
والدرس الأول، كما رأيناه في المقالة السابقة، من الممكن تلخيصه في لافتة معلّقة على باب كل صف مدرسي وتحمل عبارة تحذيرية تقول "إن الإجماع لا يجعل من الأمر حقيقة". فإذا كان الأطفال في ملعب المدرسة يقولون كلهم أمراً ما، فإن ذلك لا يعني أنه سبب يكفي لجعله في حكم الحقيقة؛ وفكرة امتلاك صدّام حسين لأسلحة التدمير الشامل هي فكرة لا تكون حقيقة أو كذباً فقط لأن الفرنسيين والألمان والأمم المتحدة وغيرهم اتفقوا في الرأي مع الاستخبارات الأميركية.
والكلمة الأساسية الثانية التي وردت في التقرير شديد اللهجة المعني بالإخفاقات الاستخباراتية هي كلمة
"Assumption" ومعناها الافتراض. فالأهم من التشكيك في ما يؤمن "كل الناس" بصحته هو التشكيك في الافتراض وبالتالي في الافتراضات التي تقف وراء غيرها من الافتراضات.
منذ سنوات كثيرة مضت، وفي الجلسة الأولى من حلقة بحث ضمن مادة التكنولوجيا والقيم التي أقوم أنا وزوجتي بتدريسها في جامعة كورنيل، طلبنا من مجموعة صغيرة من الطلاب والطالبات أن يبدأوا الجلسة بتعريفنا إلى أنفسهم وإخبارنا بالسبب الذي دعا كلاً منهم إلى المشاركة. ومع تجوالنا في أرجاء القاعة، صار كل طالب يردّ على السؤال بتمتمة بضع كلمات ثم يجلس بعد ذلك على مقعده. لكنّ فتاة واحدة لم تفعل ذلك، إذ كانت منهمكة في تدوين الملاحظات بسرعة وغضب، فقلنا لها "بربارا"، ماذا تكتبين؟.
فأجابت "بربارا" بغير مبالاة قائلةً: "إنني فقط أكتب قائمة بالافتراضات التي أسمعها في هذه القاعة". ولأنها حددت هوية الافتراضات بحيث يمكن في الحقيقة أن يتم الاعتراض عليها أو التشكيك فيها، نالت "بربارا" منا أعلى درجة حتى قبل أن تبدأ حلقة البحث، ولذا كان من الممكن لـ"بربارا" أن تعطي، في فترة الحشد والتحضير التي سبقت الحرب في العراق، دروساً لوكالة "سي آي إيه" وللكثيرين من قادة العالم. ولو أن "بربارا" فعلت ذلك حقاً، لكان في حكم الممكن لرئيس لجنة مجلس الشيوخ، التي تحقق في موضوع إخفاقات الـ"سي آي إيه"، أن يفيد في التقرير بأنه "كان هناك تقصير من جهة المجتمع الاستخباراتي عن تشجيع المحللين،على نحو كاف وملائم، على تحدي افتراضاتهم".
لكن محلّلي وكالة الـ"سي آي إيه" ليسوا وحدهم الذين رسبوا في ذلك الاختبار. فالبيت الأبيض- في عهد إدارتين على أقل تقدير- أخفق ورسب هو الآخر في الاختبار؛ وكذلك رسب في الاختبار مجلس الأمن القومي والبنتاغون والكثير من الوكالات الأخرى والكثير من الخبراء. ذلك لأنه إخفاق نسقط فيه كلنا من حين إلى آخر أثناء عملية اتخاذ القرار التي نمارسها يومياً، هذا على رغم أن عواقبه في هذه الحالة أقل سوءاً وفظاعة.
ومن المؤسف أن صنّاع السياسة ذوي المستوى الرفيع، الذين يكونون في العادة منشغلين وحزبيين ومعتمدين على طاقم موظفيهم، لا يعترضون ولا يشككّون في المقدمات التي يتخذون القرارات على أساسها إلاّ عندما تحدث هزيمة أو تقع كارثة. ومن ذلك مثلاً أنه قبل الهجوم على مركز التجارة العالمي في عام 2001، كان كبار صنّاع السياسة في الإدارة السابقة يفترضون أن من الممكن التعامل مع الأعمال الإرهابية مثلما يتم التعامل مع مسألة من مسائل الشرطة وبالاستعانة بوكالات داخلية مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" ووكالات دولية مثل "الإنتربول" (البوليس الدولي) أو بالاستعانة بتنفيذ هجمات عسكرية دقيقة وصغيرة. ولم يتضّح إلاّ في وقت لاحق أن أحداث 11 سبتمبر لم تكن جريمة منعزلة بل كانت عملاً حربياً يتطلّب رداً أكبر بكثير ومختلفاً اختلافاً جذرياً.
والافتراض الثاني الذي كان سائداً على نطاق واسع، والذي استمر وجوده دون أن يتحداه شيء حتى فات الأوان، هو الافتراض الذي مفاده أن الإرهاب الذي ترعاه الدول هو وحده القادر على شن هجمات كبرى وخطيرة على الدول الأخرى. وعلى رغم أن ذلك ربما كان صحيحاً ذات يوم، فإننا نعيش في عالم يكون فيه عكس ذلك صحيحاً أيضاً. وقد عبّر "بيتر نيومان" الأستاذ في كلّية "كينغز كوليج" في لندن عن ذلك بقوله: "إن طريقة الإرهاب الذي ترعاه الدول قد انقلبت فعلياً إلى عكسها، أي أن تنظيم "القاعدة" كان يتولى المسؤولية عن الدولة- حين كانت أفغانستان تحت حكم طالبان- بدلاً من أن يكون عكس ذلك هو الواقع". ولم يتفحص البيت الأبيض على الإطلاق، إلاّ