ليست مفارقة أن يأتيك "ناجي العلي" جرحاً لا يندمل و"ناجي الحاي" فرحة تلفها كل لحظات البوح وكلاهما مثقل بهم التراب ولون الجرح وشعاع المستقبل. كلاهما يمسك بريشة الأمل يغمسها الأول في محبرة القلب، بينما يجسدها الأخر على خشبة الضلوع. لم يكن ناجي العلي يوماً يمارس ترف "الشخبطات" بالحبر الأسود على بياض الورقة التي كان يعتقد أنها تحمل رسالته للكون والضمير العربي الذي انتهك ألف مرة بعد انهيار سد مأرب، وقبل عام الفيل، واقتتال الإخوة الأعداء في شوارع بيروت، وحرق المخيمات، ونزيف الدم العربي في بغداد والجزائر والسودان ومن قبلها الصومال.
لم يكن ناجي الحاي وملح البحر لازال يجرح حنجرته يمارس الترف وهو يدك على المسرح، ويسرج خيول الفكر والعطاء ليقدم مشهداً شاهداً على الموقف والساعة في زمن اغتيلت فيه البراءة وانتهكت حرمات الطهر.
في أمسية بادر "نادي دبي للصحافة" إلى الاحتفاء بها لإيقاظ مشاعر عربية كادت تتجلد في صقيع الإحباطات وجبال الثلج التي تراكمت على الروح المثقلة وهي تلهث خلف سراب الأمنيات. في هدأة الأمسية تسلل حنظلة من بوابة النادي بعيداً عن صخب الاقتتال في غزة وبعيداً عن آهة المخيمات، جاء حنظلة إلى دبي بدعوة خاصة جداً، ليلتقي بجمهور خاص جداً، جمهور عزَّ عليه أن يصافح حنظلة المجروح، حنظلة الملتصق على الجدران وشما يتفجر ثورة مرسومة بالأسود والأبيض. جاء حنظلة يبكي ناجي العلي، ويبكي ذلك الصمت العربي الذي منح ناجي العلي أرفع وسام في رصاصة غادرة توارى بعدها الجسد النحيل، وووري الثرى، ولكن حنظلة المشاكس دائماً ظل قابضاً على الجمر، وبقي قبساً من نور وشاهداً على العصر العربي.
كان حنظلة ناجي العلي قادراً على الاستشراف وقراءة الطالع، ولنا أن نتخيل ماذا كان يمكن أن يقول حنظلة وهو يشاهد الرصاص الفلسطيني يخترق الصدر الفلسطيني ورماح بني غزة تغرز في صدور بني جنين والناصرة وسهام الغدر العربية تنغرس في الجباه، وفي خريطة الوطن الأكبر من الماء إلى الماء. بينما كان الدم الفلسطيني يرسم خريطة الألم في القدس وحيفا كان حنظلة غائباً عن المشهد ولكنه كان حاضراً معنا في الإمارات وبدعوة كريمة كمحاولة لنبش الذاكرة التي ماتت.
في الأمسية الرقيقة كان الحديث جميلا سهلا كـ"شخبطات" الكاريكاتير ولكنه كان متفجراً كأصابع "الديناميت" في كل خط ومع كل كلمة كان ناجي العلي حاضراً والوطن وهمومه في القلب، وحوار أكثر من جيل من رسامي الكاريكاتير كانوا شهوداً على الوطن المستباح، وكان حنظلة فوق دفترهم وبين ثنايا كلماتهم وكلهم معترف بأن فقدان ناجي العلي كان فقداناً لذاكرة أمة ولخطوط سوداء كانت تكتب قصة القضية برمتها فقد كان ناجي والقضية صنوان لا يفترقان منذ لحظة الهجرة الأولى والمعاناة الأولى وحرقة المخيم الأولى والتشرد خارج الوطن وداخله.
لم يتنازل ناجي العلي وهو في مهجره القسري عن فلسطين، ولم يتاجر بالقضية، ولم يستسلم لتجار الوهم وراسمي الخرائط وشاربي الأنخاب. ليت حنظلة يستدير لحظة واحدة وينظر بعين الحقيقة للواقع العربي، ليت حنظلة يأتي، ليت حنظلة كان معنا ليرى كم نحن مصابون بالعقم، لا تذهبوا بعيداً فنحن أقدر الشعوب على الإنتاج البيولوجي ولكنه عقم الفكرة وعقم النظر إلى المستقبل وعقم القدرة على احترام الإنسان وتقدير الإبداع.
من البعيد من فرنسا ومن موطن النقد والإبداع يتألق ناجي الحاي ويصفق له جمهور لم يتربَّ على النفاق والمجاملات وصناعة نجوم الثقافة من ورق الكذب والرياء. لا تعرف باريس ناجي الحاي ابن الإمارات، ولم يجند الحاي شركات للعلاقات العامة والتدليس ليقول كلمة أو يخط رسالته على المسرح ولكنه جاء باريس مثله مثل كل المبدعين حاملا حلمه وتجربته الإخراجية وهواه المسرحي الذي أفنى عمره كي يكون إبداعاً بطابع إنساني. هذا الإماراتي المسكون بالإنسان أجبر المشاهدين وعشاق الفن الأكثر صعوبة على أن يقفوا له تحية احترام وتقدير بينما تتجاهله صحافتنا وصناع الثقافة في "مجالسنا". هل سمعتم عن ناجي الحاي؟ الآن سوف تسمعون كثيراً، فقد عرفته باريس وصفقت له والآن سيكون لنجاح الحاي ألف أب شرعي سيحاول أن يغتال فرحة الحاي، وينسبها إليه، سوف يتبعه الصحفيون بعد أن كان نكرة، سوف تستضيفه الفضائيات بعد أن كانت جل برامجها مخصصة للراقصات ونجوم السوبر عبث والسوبر مجون. بعد اليوم سيكون ناجي الحاي مبدعاً تعترف به جوقة أصنام الثقافة بعد أن تجاهلته لسنين عديدة، سوف يعترفون به من أجل أن تلتقط لهم الصور وهم في استقباله في المطار. من منا يعرف ناجي الحاي؟ وكم منا كان قد قرأ ناجي العلي حتى فهم الرسالة والمقصد؟..
لا أتمنى أن نقيم تمثالا كبيراً نضعه في طرف الميدان نتذكر فيه ناجي الحاي بعد رحيله بعد عمر طويل إن شاء الله، ولا أتمنى أن نكتب مقالات ودواوين شعر ومطولات نقدية نناقش فيها مدرسة ناجي الحاي في الكتابة والإخراج المسرحي والرؤية الفنية والبعد الإنساني في أطروحاته بعد أن يكون ناجي الحاي الشاب الصامت إلا عن الإ