عاد النضال الوطني والقومي للاقتران والتلازم مع قضية الإصلاح الديمقراطي في أكثرية الدول العربية التي تواجه الإمبرياليتين الأميركية والصهيونية بعد أن كان هذا التلازم قد انفك في دولة ما بعد الاستعمار. الحاجة للإصلاح السياسي والديمقراطي كانت وتظل أكثر حدة وشدة وقيمة في الأرض المحتلة حيث يخوض الشعب الفلسطيني نضالاً وطنياً هائلاً بكل المقاييس. كان هذا التلازم قد غاب أيضاً عن أفق الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نهاية تجربة حكومة عموم فلسطين. ومع صعود نجم ياسر عرفات لم يكن الذي غاب عن أفق الحركة الوطنية الفلسطينية هو الديمقراطية وحدها بل القيادة الصالحة بوجه عام. ومع ذلك لم يكن الشعب الفلسطيني قد لاحظ هذا الغياب إلا في الحيز الضيق للشكوى الفردية وداخل المجموعات الصغيرة من المناضلين المدنيين في الأرض المحتلة وخاصة في الضفة. وحتى داخل حلقات أنصار الثورة الفلسطينية الأشد إيماناً ودعماً للقضية في مصر والبلاد العربية الأخرى لم يكن النقد الديمقراطي والأخلاقي والثقافي للقيادة الفلسطينية يحظى باهتمام وكان يتم العبور سريعاً على إشكالياته لأن الكثرة اعتقدت أن أوان هذا النقد لم يأتِ. وكان يقال إن الشعب الفلسطيني لم يتمكن بعد من إنشاء دولته وهو قول يتجاهل أن الحاجة إلى الإصلاح أشد وأهم بالنسبة لمنظمة ثورية منه لنظام سياسي في بلد حقق الاستقلال بالفعل وتعفن بعد ذلك. وكانت هناك حجة أكثر سخافة من الناحية النظرية ومن وجهة نظر المهمات الكفاحية الملموسة وهى أن إسرائيل هي المستفيدة من أية صراعات فلسطينية تطرح نمط القيادة ونمط السياسة الفلسطينية بشكل عام للتساؤل والمنازعة. ولذلك عملت غريزة العداء لأميركا بصورة أوتوماتيكية بحيث بدا أن المناضلين على الأرض، وأن الشعب الفلسطيني بشكل عام يرفض تغيير قيادته أو إصلاح النظام الذي أسسته لإدارة شؤونه لمجرد أن الرئيس الأميركي طلب ذلك في خطابه الشهير في 24 يونيو 2002.
بالنسبة للناقدين من الحلقات الأشد دعماً لقضية نضال الشعب الفلسطيني في مصر والبلاد العربية الأخرى كانت هذه الوقائع مذهلة لأن الواقع كان مؤلماً إلى أقصى حد وكان ينزع جانباً كبيراً من شرعية النضال ذاته. فما معنى أن يتم توظيف آليات الفساد منذ عشرات السنين وعلى أعلى مستوى في عملية بناء المؤسسات التي تقوم بالدور القيادي في النضال؟ وما معنى أن تقابل الشكوى من الإسراف المالي وعقلية استعراض الثروة الشخصية وإهدارها علناً من جانب الكوادر القيادية للمنظمة وأسَرهم والمحيطين بهم وهي شكوى كانت على لسان كل أردني ولبناني وتونسي وكل من احتك بمنظمة التحرير الفلسطينية حتى في أوروبا الغربية منذ منتصف السبعينيات وحتى الآن بالاستهتار وهز الأكتاف؟ وما معنى ما يعرفه الجميع من أن شخصاً واحداً هو الرئيس عرفات يسيطر شخصياً على- وهو وحده الذي يعرف تفاصيل- الرصيد المالي التاريخي للمنظمة وهو رصيد قد يضيع ولا يهتدي إليه أحد عندما يختاره الله إلى جانبه كما يحدث لكل البشر؟
لا شك أن المسؤولية عن هذه الوضعية الغريبة تقع على أكتاف الحكومات العربية بل وعلى القوى الدولية التي لم تهتم بمبدأ المحاسبة المالية إلا عندما بدأت تضيق بعرفات لمواقفه السياسية. ولكن الجميع شركاء في تلك المسؤولية لأن الجميع رفض أن يضع قضية الإصلاح السياسي والمالي الفلسطيني على جدول الأعمال رغم أنها كانت مُلحه منذ ثلاثين عاماً. وكانت مثل تلك الحقائق مذهلة لمن كان يناضل من أجل جمع التبرعات المالية والدعم السياسي للنضال الفلسطيني من أبسط الناس في مختلف البلاد العربية. ولكنهم اكتفوا بالسخرية في حلقات ضيقة من إهدار أموال المنظمة وإتاحة سرقتها من جانب كثيرين في شتى البلاد العربية ومن جانب رجال عرفات أنفسهم بدلا من إثارة القضية علناً من أجل فرض إصلاحات جذرية. ومع ذلك ظلت الحجة القائلة إن إسرائيل هي التي تستفيد من هذا النقد فاعلة في إسكات المطالبين بالإصلاح الجذري من داخل وخارج المنظمة وفلسطين.
والواقع أنه لم توجد نظرية سياسية عربية أشد سخفاً من نظرية أن إسرائيل هي المستفيدة من طرح نمط القيادة الفلسطينية للتساؤل وأن مساءلتها عن الفساد هي تشويه للنضال الوطني. فلم تستفد إسرائيل من شيء مثلما استفادت من معرفة العالم أجمع بمدى الفساد الضارب في أعلى مستويات السلطة الوطنية. إذ يكفي أن تشير إلى هذه الحقيقة التي وثقها المجلس التشريعي ذاته في عدة مناسبات وإن على نطاق لا يمس الرئيس عرفات ليهز العالم رأسه عجباً من أن يعشش الفساد في ثورة وطنية على هذا المستوى البطولي! والأهم أن أحداً لم يقف كثيراً أمام العواقب النفسية والأخلاقية بل والعملية للتوظيف المنهجي للفساد كأسلوب للسيطرة والحكم في حالة الثورة الفلسطينية مكتفين بالحديث العام عن أن المرض جماعي وشائع في البلاد العربية جميعها تقريباً.
لم تكن في الموضوع أسرار من هذه الناحية على الأقل. فالفساد كأسلوب منهجي في الحكم ترجم منذ زمن طويل إلى نمط جزافي من التعيينات التي تتناقض