تمثل المصادقة الأخيرة من قبل مؤتمر الشعب الوطني، على تعديلات دستورية بخصوص حماية الملكية الخاصة، معلماً بارزاً على مضي الصين قدماً نحو اقتصاد السوق الحر. وتبقى الأيام وحدها كفيلة بأن تكشف، عما إذا كانت هذه التعديلات مجرد ذر للرماد في العيون، وغطاء للاستمرار في نهج الحكم الشمولي، أم أنها تمثل نقطة تحول كبيرة ومهمة حقاً، باتجاه الإصلاح الاقتصادي السياسي هناك. وسواء مضت التعديلات في هذا الطريق أو ذاك، فمما لا شك فيه أن أي تحرير اقتصادي في الصين، مرحب به على أية حال. ولكن السؤال الذي يجب ألا يغيب عن الأذهان، هو كيف حدثت هذه التعديلات الدستورية أصلا؟ الإجابة الجزئية، هي أن اقتصاد السوق يجد الترحيب الآن، لكون الحكومة الصينية، لم تعد هي الجهة الوحيدة التي يستمع لها هناك. ذلك أن المنظمات غير الحكومية، وغيرها من المنظمات المدافعة عن الخصخصة، قد شرعت بممارسة دورها وتأثيرها، في تحديد كل من مسار وسرعة التحولات هناك، فضلا عن إقناع القادة الصينيين بضرورة إجراء ما يلزم من تغييرات اقتصادية، حتى تبقى عجلة الاقتصاد الوطني متحركة إلى الأمام.
صحيح أن الصين حققت معدلات نمو اقتصادي مذهل في الآونة الأخيرة. غير أن المراقبين القريبين للواقع، يدركون أن المعدلات تلك، ليست متساوية ومتكافئة على امتداد البلاد بأسرها. ولهذا السبب، فقد شرع الباحثون في معهد بكين للبحوث الاقتصادية- وهو مؤسسة غير ربحية- في إعداد دراسة بعيدة المدى، حول السياسات الاقتصادية المتبعة في الثلاثين ولاية الصينية، ومناطق الحكم الذاتي هناك. وقد نشرت بعض النتائج الجزئية التي توصلت إليها هذه الدراسة، في تقرير سنوي، يحمل عنوان "مؤشر التحول باتجاه نمط السوق في المحافظات الصينية الثلاثين". ويجدر بالذكر، أن "مركز الاستثمارات الخاصة"، التابع لغرفة التجارة الأميركية في واشنطن، قد شارك في التمويل الجزئي للدراسة المشار إليها. وتعد هذه الدراسة، شبيهة بمؤشر"الحرية الاقتصادية" وهو المؤشر السنوي الذي تشترك كل من مؤسسة "هيرتج" وصحيفة "وول ستريت" في إعداده سنوياً. والمعروف عن التقرير الأخير، أنه يقارن مستويات الحرية الاقتصادية في 150 دولة من دول العالم، إضافة إلى وجود مؤشر آخر شبيه، يدرس الفوائد المقارنة للخمسين ولاية الأميركية.
وبالمثل، فإن الدراسة التي تجري في الصين حالياً، هدفها هو مقارنة الفائدة الاقتصادية، التي تجنيها محافظات الصين الثلاثين، مما تحقق من نمو اقتصادي قومي كبير، خلال السنوات الأخيرة. ويضطلع الفريق الذي يعكف على إعداد الدراسة الاقتصادية هناك، بقياس المتغيرات الرئيسية مثل: مدى تدخل الحكومة المحلية في العمليات الاقتصادية ومعاملات السوق، ومستوى الدعم القانوني الذي يحظى به السوق الحر، ومدى التطور الذي شهده كل من القطاع الخاص، وأسواق السلع، والسوق المالية، في كل من المحافظات الصينية الثلاثين. هذا وقد تحول مؤشر القياس الذي نعمل على تطويره، إلى مرجع مهم، وأداة بحث لا غنى عنها، سواء بالنسبة لصانعي السياسات والقرارات، أم بالنسبة للباحثين الأكاديميين، الراغبين في معرفة الأسباب التي تجعل بعض المحافظات الصينية، تنمو بمعدلات أسرع من غيرها. كما يعد المؤشر أداة لا غنى عنها، بالنسبة لأولئك الساعين لإدخال المزيد من الإصلاحات والتغيير.
من على بعد، يبدو الاقتصاد الصيني متشابهاً ومتماثلاً، وكأن المرء لا يرى سوى صينٍ واحدة فحسب. غير أن نظرة قريبة وعن كثب إلى هذا الواقع، تكشف عن تفاوت كبير بين معدل النمو الاقتصادي في المحافظات، تماماً كما هو حال التفاوت الاقتصادي بين ولايات أميركية مثل أركنساس وكاليفورنيا وتكساس مثلا. وعلى سبيل المثال، فإن ترتيب كل من محافظات جوانجدونج ، وزايجانغ، وفوجيان، هو الأول والثاني والثالث، على التوالي، وفقاً لآخر الاستنتاجات التي خلص إليها مؤشرنا. وفي الجانب الآخر، فإن محافظة منغوليا الداخلية، تحتل المرتبة الرابعة والعشرين، بينما تأتي محافظة تشانشي في المرتبة السابعة والعشرين. أما محافظة تشنيانج، فتأتي في ذيل قائمة النمو الاقتصادي، حسبما أشارت آخر التحليلات التي توصلنا إليها.
والمعروف عن محافظة جواندونج - حيث ترقد دلتا نهر بيرل، وحيث يوجد أهم منفذ لمنتجات الشركات الأميركية، وغيرها من الشركات متعددة الجنسية-، معروف عنها أنها الولاية الثانية مباشرة، من حيث طلبات براءة الاختراع المقدمة والمصادق عليها، فضلاً عن حمايتها لحقوق الملكية الفكرية. وعلى عكس هذا الواقع تماماً، فإن محافظة تشنيانج، التي تخنق أنفاسها واقتصادها، سيطرة القطاع الحكومي، مع غياب أي وسيلة للحد من سطوته على حياتها الاقتصادية. ولكل هذه الأسباب، فقد احتلت المحافظة ذيل المحافظات الصينية جميعاً، من حيث معدل النمو الاقتصادي. هذا وتؤكد النتائج التي توصل إليها المؤشر، بما لا يدع مجالا للشك، تلك العلاقة القائمة، بين مستوى إرخاء قبضة جهاز الدولة على الاقتصاد، ومعدل وسرعة النمو الاقتصادي. وتبعاً لذلك، فإنه كلم