كنت أقلّب وأفتش صفحات التقرير المؤلف من 168 صفحة والذي يدور حول جمع المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالعراق في فترة ما قبل الحرب، وهو تقرير ستقرؤه ذات يوم قلة فقط من الأميركيين. وهناك تقرير رسمي بريطاني صدر ما بين تقرير لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ الذي صدر في مطلع هذا الشهر، وتقرير لجنة التحقيق في أحداث11 سبتمبر. وموضوع التقرير البريطاني المذكور هو دقة المعلومات الاستخباراتية التي تم جمعها عشية الحرب بغية تقييم التهديد الذي يشكله صدّام حسين.
واللجنة البريطانية المعنية توجه انتقادات حادّة للكثير من الاستنتاجات المصابة بالعيوب والتي توصل إليها رؤساء دوائر شعبة MI6 (الاستخبارات البريطانية الخارجية)، تماماً كما فعل المحققون الأميركيون حيال وكالة الـ"سي آي إيه". لكن هناك فرقاً واضحاً كل الوضوح، وهو أن اللجنة البريطانية التي يرأسها اللورد "باتلر" توحي بأن هناك أدلّة كثيرة تؤكد قصة مساعي العراق إلى شراء اليورانيوم من أفريقيا، وهي أكثر من الأدلة التي أوحي بوجودها. ويقول التقرير البريطاني إن الأدلة لم تكن حاسمة ولم تجزم بأن العراق قد اشترى اليورانيوم بالفعل، أي خلافاً للقول إنه سعى إلى الحصول على اليورانيوم. لكن التقرير يوثّق الزيارات التي قام بها مسؤولون عراقيون إلى دولة النيجر المصدّرة لليورانيوم، وهو يقول إن المعلومات الاستخباراتية البريطانية، الواردة من مصادر كثيرة وتشير إلى أن الغرض من تلك الزيارات كان الحصول على اليورانيوم، هي معلومات "موثوقة".
ولهذا الاستنتاج انعكاسات سياسية. ففي يوم 24 سبتمبر 2002، قال "توني بلير" رئيس الوزراء البريطاني لمجلس العموم إن "صدّام كان يحاول شراء كميات كبيرة من اليورانيوم من أفريقيا، هذا على رغم أننا لا نعلم ما إذا كان قد نجح في ذلك". وفي يوم 28 يناير 2003 وفي خطاب "حالة الاتحاد" الذي ألقاه، قال الرئيس "بوش" إن "الحكومة البريطانية علمت أن صدّام حسين سعى في الآونة الأخيرة (قبل الحرب) إلى الحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم من أفريقيا". وخلصت لجنة اللورد "باتلر" إلى أن كلا التصريحين (أي تصريح بلير وتصريح بوش) "يستندان إلى أساس جيد".
في أواخر السبعينيات، وهذا ما يقوله التقرير، حصل العراق على كميات كبيرة من اليورانيوم (هذه هي نقطة بداية كل عمليات التطوير النووية لأغراض عسكرية وأغراض سلمية) من النيجر والبرازيل والبرتغال. وبحلول عقد الثمانينيات، حقق العراق الاكتفاء الذاتي من فلز اليورانيوم المستخرج من المناجم العراقية ومنشآت التنقية في كلّ من موقع عكاشات وموقع القائم وموقع الجزيرة. وفي أثناء حرب الخليج الأولى، وبوجود عمليات التفتيش الدولية بعد الحرب، من المفترض أن العراق كان مرغماً على استيراد اليورانيوم أو فلز اليورانيوم من أجل أي برنامج نووي سري.
وفي مطلع عقد التسعينيات، يقول التقرير، زار مسؤولون عراقيون عدداً من البلدان الأفريقية، ومنها النيجر، حيث يشكّل اليورانيوم ثلاثة أرباع الصادرات. وكشفت الاستخبارات البريطانية هذه الزيارات واشتبهت بأن العراق يريد شراء اليورانيوم ليبدأ من جديد برنامجه النووي. وأوحى المزيد من المعلومات الاستخباراتية بأن العراق قد سعى إلى الحصول على فلز اليورانيوم من جمهورية الكونغو الديمقراطية، وبأن اتفاقاً تم التوصل إليه بحلول عام 2002. وفي 2002 أيضاً تلقّى البريطانيون المزيد من المعلومات الاستخباراتية من مصادر إضافية وهي تفيد بأن زيارة النيجر كانت بهدف التفاوض على شراء فلز اليورانيوم، هذا على رغم أن المحللين لم يتفقوا في الرأي حول ما إذا كان تم الاتفاق على صفقة بيع وما إذا كان تم شحن اليورانيوم.
ووفقاً لتقرير لجنة "باتلر"، لم تدرك الحكومة البريطانية إلاّ في مطلع 2003 أن هناك وثائق تزعم شراء العراق لليورانيوم من النيجر. وقد تم نقل هذه المعلومات إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي قرّرت أن الوثائق ملفقة. لكن الوثائق لم تكن متاحة للحكومة البريطانية عندما أجرت تقييمها، ولذا لم يكن لها تأثير في ذلك الاستنتاج.
وقام البريطانيون بإطلاع وكالة "سي آي إيه" الأميركية على معلوماتهم الاستخباراتية. و"أشارت الـسي آي إيه بتوخي الحذر حيال أي إيحاء بأن العراق قد نجح في الحصول على اليورانيوم من أفريقيا، لكنها وافقت على أنه كان هناك دليل يؤكد أنه كان هناك سعي إلى الحصول على اليورانيوم".
وعموماً، لابد من تقييم جودة جمع المعلومات الاستخباراتية من داخل العراق بأنها رديئة جداً. فقد كان في العراق مجتمع من الصعب جداً اختراقه بطبيعة الحال. ذلك لأن صدّام كان أستاذاً في الخداع؛ وبعد أن غادر المفتّشون التابعون للأمم المتحدة العراقَ في ديسمبر 1998، صارت مصادر المعلومات قليلة ومتفرقة. ولم يكن لدى البريطانيين سوى 5 مصادر رئيسية، وكان 2 منها فقط يوصفان بأنهما "مهيمنان" (أي يمكن التعويل عليهما). ولذا يجب أن يثير ذلك كله الآن أسئلة حساسة حول قيمة التنصت الإليكتروني (بالاستعانة